ملتقى صائد الرؤى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين

اذهب الى الأسفل

منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين Empty منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين

مُساهمة  عاشقة السماء الأحد سبتمبر 22, 2013 12:06 am

الكاتب: عبد العزيز آل عبداللطيف

لا شك أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين، ولقد كانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حل بهم من أنواع الفساد وصنوف الظلم والذل والمحق.

ونظرا لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها من جانب آخر، فسيكون موضوع هذه المقالة عن منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين، وضرورة التحاكم إلى شرع الله.

فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل الكتاب، فقال سبحانه: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213]، وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].

وبين سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال تعالى: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام: 57]، وقال سبحانه: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40]، وقال عز وجل: {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 70]، وقال سبحانه: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10].

وجاءت الآيات القرآنية مؤكدة على أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله - وهو حكم الطاغوت والجاهلية - من صفات المنافقين.

قال سبحانه: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} [النور: 47 - 51].

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} [النساء 59 - 62].

يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: (ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرا ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك [1] وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضا، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات) [2].

ويقول أيضا: (ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما حكم ويسلموا تسليما) [3].

ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله … الآية}: (والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقا لا يعمد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام) [4].

ويمكن أن نحدد أهمية إفراد الله تعالى بالحكم، وبيان منزلة الحكم بما أنزل الله من خلال العناصر التالية:

1) منزلته من توحيد العبادة:


إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد الله تعالى بالطاعة، والطاعة نوع من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} [يوسف: 40]، وقال سبحانه: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} [القصص: 70]، فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث قال سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].

وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله تعالى بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة الإسلام.

وكما قال ابن تيمية: (فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته دونه) [5].

ويقول ابن القيم: (وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه، أو هواه، أو قول مقلده وشيخه وطائفته) [6].

وفي المقابل فإن من أشرك مع الله في حكمه، فهو كالمشرك في عبادته، لا فرق بينهما، كما قال الشنقيطي: (الإشراك بالله في حكمه، والإشراك في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاما غير نظام الله، وتشريعا غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله) [7].

ويقول أيضا: (ويفهم من هذه الآية {ولا يشرك في حكمه أحدا…} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبارة الشيطان في قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا}) [8].

وتحقيقا لوحدة العبادة القائم على نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، وإثباتها لله تعالى وحده، فإنه يجب الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256].

وقد سمى الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتا، حيث قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} [النساء: 60]، والطاغوت عام، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت [9].

2) منزلته من التوحيد العلمي الخبري:

الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابا لمتبعيهم، فقال سبحانه: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] [10].

وكما يقول محمد رشيد رضا في بيان معنى الشرك في الربوبية: (هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عن رسله) [11].

ويقول ابن حزم عن قوله تعالى {اتخذوا أحبارهم... الآية}: (لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، قد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف) [12].

ويقول ابن تيمية في هذا الشأن: ( قد قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}. وفي حديث عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما - وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: "إنا لسنا نعبدهم، قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم"، وكذلك قال أبو البختري: "أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الأمة حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية"... فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجال، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [13] كما أن حقيقة الرضا بالله ربا توجب إفراد الله تعالى بالحكم،واختصاصه تعالى بالخلق لأمر، حيث قال سبحانه: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وقال سبحانه: {قل إن الأمر كله لله} [آل عمران: 154]، فالأمر كله لله تعالى وحده، سواء كان. هذا الأمر أمرا كونيا قدريا، أو شرعيا دينيا) [14].

يقول العز بن عبد السلام: (وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه... وكذلك لا حكم إلا له) [15].

ويقول عبد الرحمن السعدي: (فإن الرب والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعا لطاعته) [16].

إضافة إلى ذلك؛ فإن "الحكم" من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحكم وإليه الحكم) [17].

وقال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما} [الأنعام: 114]، وقال سبحانه: {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]، وقال عز وجل: {أليس الله بأحكم الحاكمين} [التين: 8].

وإن الإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26]، وقال سبحانه: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10].

وقد بين الله تعالى في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له.

وكما قال الشنقيطي مبينا ذلك: (فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، ثم قال مبينا صفات من له الحكم: {ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب * فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} [الشورى: 10 - 12].

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا..؟ فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل.

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26]، فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.

ومنها قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين}، فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟

ومنها قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59]، فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه، لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟ سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم) [18].

3) منزلته من توحيد الاتباع:

والمقصود بتوحيد الاتباع تحقيق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتوحيد الاتباع هو توحيد الرسول بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان [19]، وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الحكم بما أنزل الله هو توحيد الاتباع.

قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65].

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنا) [20].

ويقول ابن القيم عن هذه الآية: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض...) [21].

كما أن الحكم بما أنزل الله هو تحقيق للرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا، ولذا يقول ابن القيم: (وأما الرضى بنبيه رسولا؛ فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه) [22].

بل إن الحكم بما أنزل الله تعالى هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله؛ طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى وزجر، وأن لا يعبد إلا بما شرع) [23].

ولذا يقرر الشيخ محمد بن إبراهيم أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله بقوله: (وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلا وتركا وتحكيما عند النزاع) [24].

4) منزلته من الإيمان:

يقول الله تعالى: {يا أيها الذين امنوا يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59].

من خلال هذه الآيات الكريمات ندرك منزلة تحكيم شرع الله تعالى من الإيمان، فلقد عد الشارع هذا التحكيم إيمانا كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65].

يقول ابن حزم: (فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيمانا، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، مع أنه لا يوجد في الصدر حرج مما قضى، فصح يقينا أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون إلا مع القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد) [25].

ويقول ابن تيمية: (فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه) [26].

وتحكيم شرع الله ورد النزاع إلى نصوص الوحيين شرط في الإيمان، كما قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59].

ولذا يقول ابن القيم: (إن قوله {فإن تنازعتم في شيء..} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين، دقه وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع. ومنها أن جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سميا التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة) [27].

ويقول ابن كثير: (فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر) [28].

وإذا كان التحاكم إلى شرع الله تعالى شرطا في الإيمان، فإن التحاكم إلى غير هذا الشرع - وهو حكم الطاغوت والجاهلية - ينافي الإيمان، وهو من علامات النفاق.

وقد سبق أن أوردنا كلام محمد رشيد رضا حيث يقول عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون...} [النساء: 60]: (والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقا لا يعتد بما زعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام) [29].

ويقول الشيخ السعدي في هذا الصدد: (الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: {ألم تر إلى الذين يزعمون... الآية}، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك...) [30].

ومما كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا المقام قوله: (إن قوله تعالى {يزعمون} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه) [31].

إضافة إلى ذلك فإن الإيمان قول وعمل، فهو يتضمن تصديقا وانقيادا، فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64].

ولذا يقول محمد بن نصر المروزي في تعريف الإيمان:
(الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له، ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانبا للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه...)، إلى أن قال: ( وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات) [32].

ولا شك أن تحكيم الشريعة انقياد وخضوع لدين الله تعالى، وإذا كان كذلك فإن عدم تحكيم هذه الشريعة كفر إباء ورد امتناع، وإن كان مصدقا بها، فالكفر لا يختص بالتكذيب فحسب كما زعمت المرجئة.

يقول ابن تيمية: (فمن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 42 - 43]) [33].

ويقول ابن عبد البر: (قد أجمع العلماء أن من دفع شيئا أنزله الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله؛ أنه كافر) [34].

وفي ختام هذا المقال نشير إلى أن تحكيم الشريعة استجابة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ففيه الحياة والصلاح والخير، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24].

يقول الشيخ السعدي: (قوله {إذا دعاكم لما يحييكم} وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلوب والروح، بعبودية الله تعالى، ولزوم طاعته، وطاعة رسوله، على الدوام) [35].

وإن رفض هذه الشريعة وعدم الاستجابة لها اتباع للهوى، فهو ضلال شنيع في الدنيا، وعذاب شديد في الأخرى، ويقول تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، ويقول سبحانه: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}.

ويقول عز وجل: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} [النساء: 14].

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم) [36].

ولقد جاءت نصوص الوحيين محذرة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى، فقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون} [المائدة: 49].

يقول إسماعيل إبراهيم الأزهري: (فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله فيه، ونهاه عن اتباع أهوائهم لما فيه من مخالفة المنزل إليه، وحذره أن يفتنوه فيحولوا بينه وبين بعض ما أنزل عليه، وأعلمه أنهم إن تولوا عن الحكم الذي أنزله الله إليه فإنما يريد أن يصيبهم ويبتليهم بسبب بعض ذنوبهم. فعلم منه أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله إلى حكم الأهواء سبب لإصابة الله بالمصائب) [37].

ويحكي ابن القيم شيئا من عواقب تنحية حكم الله تعالى فقال: (لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليها، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان، وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير...) [38].

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر المهاجرين: خصال خمس إن ابتليتم بهن، ونزلن بكم - وذكر منها - وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم) [39]، وفي رواية (وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر) [40].

وفي هذا يقول ابن تيمية: (وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا - حكم الكتاب والسنة - فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم، قال صلى الله عليه وسلم: "ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم". وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه) [41].

وصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى واقع بلاد المسلمين - الآن - يرى ما وقع في تلك البلاد من المصائب، وأنواع الفرقة والعداوة بينهم، وكذا التقاتل والتناحر، كما ظهر الفقر والتدهور الاقتصادي، مع أن في بلاد المسلمين - كما هو معلوم - أعظم الثروات وبمختلف الأنواع، وأعظم سبب في ذلك هو تنحية شرع الله والتحاكم إلى الطاغوت.

والله المستعان.

-----------
[1] يقصد التتر.
[2] الفتاوى 12/339 - 340، بتصرف يسير.
[3] الفتاوى 7/37 - 38.
[4] تفسير المنار 5/227.
[5] الفتاوى 3/ 91، وانظر النبوات ص 69 - 70.
[6] مدارج السالكين 2/118.
[7] الحاكمية في تفسير أضواء البيان، لعبد الرحمن السديس، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162.
[8] أضواء البيان 4/83 و 3/440.
[9] انظر أعلام الموقعين 1/49 - 50، وانظر رسالة معنى الطاغوت لمحمد بن عبد الوهاب (مجموعة التوحيد) ص 260.
[10] انظر المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/33.
[11] تفسير المنار 2/55، و 3/326.
[12] فصل 3/266.
[13] الفتاوى 7 / 67.
[14] وانظر تحكيم الشريعة لصلاح الصاوي ص 18 - 21، ورسالة ضوابط التكفير ص 116.
[15] قواعد الأحكام 2/134 - 135
[16] القول السديد ص 102.
[17] رواه أبو داود 4955، والنسائي 8/226
[18] أضواء البيان 7/173 - 168، باختصار.
[19] انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/228.
[20] تفسير ابن كثير 3/ 211.
[21] البيان في أقسام القرآن ص 270.
[22] مدارج السالكين 2/172 - 173.
[23] مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/190، وانظر تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله ص 554 - 555.
[24] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/251، (رسالة تحكيم القوانين).
[25] الدرة ص 238.
[26] الفتاوى 28/471، و35/336،407.
[27] أعلام الموقعين 1/49 - 50.
[28] تفسير ابن كثير 3/209.
[29] تفسير المنار 5/277.
[30] تفسير السعدي 2/90، باختصار.
[31] رسالة تحكيم القوانين.
[32] تعظيم قدر الصلاة 1/392/393.
[33] الفتاوى 7/611، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 54.
[34] التمهيد 4 /226.
[35] تفسير السعدي 3/156.
[36] عمدة التفسير 3/125.
[37] تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن ص40، وانظر ص 22.
[38] الفوائد ص 42 - 43.
[39] رواه البيهقي وصححه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/321.
[40] رواه الطبراني فى الكبير وحسنه الألباني، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/321.
[41] الفتاوى 35/387.
عاشقة السماء
عاشقة السماء
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ

عدد المساهمات : 4735
تاريخ التسجيل : 08/02/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى