ملتقى صائد الرؤى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  ???1 الخميس أكتوبر 10, 2013 5:50 pm

باحث بالمركز العالمي للوسطية، ألقي هذا البحث في المؤتمر العالمي لظاهرة التكفير، الذي أقيم بالمدينة المنورة في الفترة من 22 – 24 شوال 1432هـ.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، وبعد:

مع أن السلف الصالح قالوا: (لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) (ابن أبي العز، صدر الدين محمد بن علاء الدين، شرح العقيدة الطحاوية، (بيروت:، ط9، 1408هـ-1988م)، ص316) فإنه وقع خلط كبير في مفهوم الاستحلال والتكفير به دونما الوقوف على المعنى والحكم الصحيحين؛ فبذريعة الاستحلال كفر الكثير من المسلمين، فوقع خلط بين الاستحلال الفعلي والاستحلال القلبي، وتعجل البعض في اعتبار كل قول ظاهره تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه استحلالاً؛ فحكموا بكفر صاحبه حتى ولو كان هذا الفاعل يصلي ويصوم ويقول أنا مسلم. والتكفير بهذه الصورة في غاية الخطورة؛ لأن المسلم قد دخل الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين؛ فالاستعجال في تكفير الناس بذريعة الاستحلال شبهة وقع فيها المكفرون فكانت جناية على الله ورسوله والمؤمنين.

وهكذا اشتبه على الناس فهْم كفر الاستحلال وحكمه وضوابطه، فكان لزامًا الوقوف على هذا القسم من التكفير أعني تكفير الاستحلال مليًّا، وبيان وجه الحق فيه حفاظًا على دين المسلم، وخروجًا من إشكالية تكفير الناس بذريعة الاستحلال.

فلهذه الأهداف والأسباب جاءت هذه الورقة بعنوان: (كفر الاستحلال: المفاهيم والضوابط ورد الشبهات)، لتجيب عن هذه التساؤلات والرد على شبهات الاستحلال من خلال المحاور التالية:

المحور الأول: ضبط المفاهيم.

المحور الثاني: ضوابط الاستحلال المُكفِّر.

المحور الثالث: حكم الاستحلال وبعض مسائله.
المحور الرابع: الرد على شبهات في مسائل الاستحلال.
المحور الأول
ضبط المفاهيم
1- تعريف الاستحلال في اللغة والاصطلاح
تعريف الاستحلال عند اللغويين:

أصل كلمة استحلال (حل)، وهو خلاف حرَّم، ويتعدى هذا الفعل بالهمزة والتضعيف فيقال أحللته وحللته، ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أي أباحه وخير في الفعل والترك (انظر: الفيومي. أحمد بن علي المقري، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، (بيروت: المكتبة العلمية)، ج1، ص147)، وإذا أضيفت الهمزة والسين والتاء على أصل الكلمة فإنها تأتي على عدة معان منها:

1- السؤال والطلب جاء في المعجم الوسيط: "استحل فلانا الشيءَ، سأله أن يحلَّه له" (مجمع اللغة، المعجم الوسيط (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط4، 1425هـ-2004)، ص194. وانظر: ابن منظور، لسان العرب، (القاهرة: دار المعارف)، مج2، ص975).

2- الاعتقاد في الشيء؛ جاء في لسان العرب "واستحل الشيء عده حلالا" (ابن منظور، لسان العرب، (مرجع سابق)، مج2، ص975).

3- الاتخاذ؛ جاء في القاموس المحيط: "واستحله اتخذه حلالاً" (الفيروز آبادي. مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1399هـ-1979م)، ج3، ص349. وانظر: ابن منظور، لسان العرب، (مرجع سابق)، مج2، ص975).

والخلاصة أن معنى الاستحلال في اللغة لا يخرج عن معنى التحويل والتبديل والنقل من وضع إلى وضع آخر.
تعريف الاستحلال في الاصطلاح:

وتعريف الاستحلال في الاصطلاح لا يخرج عن معانيه في اللغة؛ فقول ابن منظور: (واستحل الشيء عدَّه حلالاً) وقول الفيروز آبادي: (واستحله اتخذه حلالاً) يصبان في تعريف الاستحلال اصطلاحًا؛ فقد عرفه الإمام الشاطبي بقوله: (لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً) (الشاطبي، الاعتصام، تحقيق سيد إبراهيم، (القاهرة: دار الحديث، 1424هـ-2003م)، ص342). وعرفه ابن العثيمين بقوله: (هو أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله) (ابن العثيمين. محمد بن صالح بن محمد، لقاء الباب المفتوح، لقاء 50. [لقاءات كان يعقدها الشيخ بمنزله كل خميس. بدأت في أواخر شوال 1412هـ وانتهت في الخميس 14 صفر، عام 1421هـ]). فمفهوم الاستحلال قائم على اعتقاد الشخص أن الذنب الذي فعله لم يحرمه الله، وبيَّن هذا الإمام ابن تيمية عندما قال: (من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها) (ابن تيمية. أحمد بن عبد الحليم، الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق محمد عبد الله عمر الحلواني ومحمد كبير أحمد شودر، (بيروت: دار ابن حزم، ط1، 1417هـ)،ج1، ص519). فأساس الاستحلال في الاصطلاح يقوم على الاعتقاد بحل ما حرمه الشرع أو بتحريم ما أحله الشرع.

2- صلة الجحود والتكذيب لشرع الله بالاستحلال

لفظ الاستحلال يتقارب مع لفظي الجحود والتكذيب، وقد تشتبه معاني هذه الألفاظ على البعض، وأدل ما يدل على اختلاف معاني هذه الألفاظ قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، جاء في تفسير القاسمي: (وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم، عنادًا أو مكابرة) (القاسمي. محمد جمال الدين، تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1377هـ-1958م)، ج6، ص2291). فهؤلاء المذكورون في الآية الكريمة يعلمون علم اليقين صدق الرسول r ولكنهم جحدوا وتولوا وأعرضوا ورفضوا الانقياد والاتباع له، فكفروا بجحودهم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]، وإن كانت هذه الألفاظ مختلفة في المعنى فإن لها صلة ببعضها البعض؛ فما صلة الاستحلال بالجحود والتكذيب؟

فالاستحلال اعتقاد حل ما حرمه الله، والجحود إنكار ما حرمه الله عنادًا ومكابرة، وأما التكذيب فعدم التصديق بأن هذا الأمر حلال؛ فاستحلال شرب الخمر مثلاً اعتقاده حلالاً، وجحود حرمة شرب الخمر: إنكار حرمته باللسان، أما تكذيب حرمة الخمر فهو ادعاء عدم وجود دليل على حرمته، كما أن الاستحلال فيه نوع من التكذيب وإن لم يكن ظاهرًا، وكذلك فيه نوع من الجحود وإن لم يكن علانية.

وبناء على ما سبق يمكن القول أن كفر الاستحلال يأتي بين كفر الجحود وكفر التكذيب، وفي أحيان كثيرة لا يفرق العلماء بين كفر الجحود وكفر الاستحلال كما هو الحال مع الإمام ابن قيم الجوزية، حيث قال: (وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله وإرساله الرسول r. والخاص المقيد: أن يجحد فرضًا من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرًا أخبر الله به. عمدًا أو تقديمًا لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض) (ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق رضوان جامع رضوان، (القاهرة: مؤسسة المختار، ط1، 1422هـ-2001)، ج1، ص285).

والأشد بين هذه الأنواع هو كفر التكذيب؛ لأنه يشمل في الأغلب من كان كافرًا كفرا أصليًّا بدليل أن آيات كثيرة من القرآن تنعت أقوام الأنبياء الكافرين بالتكذيب كقوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ . وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 42- 44]، ويشمل كذلك من كان مسلمًا ثم ارتد، ولهذا اعتبر العلماء أن مسائل التكفير تعود إلى التكذيب؛ يقول رشيد رضا: (ومدار الكفر بكل أنواعه على تكذيب شيء من أمر الدين علم قطعًا أن النبي r جاء به عن الله تعالى، كما أن مدار الإيمان كله على تصديق الرسول في كل ما علم قطعًا أنه جاء به عن الله تعالى تصديق قبول وإذعان) (رضا. السيد محمد رشيد، تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم تفسير المنار، (القاهرة: دار المنار، ط3، 1366هـ-1947م)، ج7، ص601). وأما أخف الأنواع فهو كفر الاستحلال بدليل أنه ليس كل من استحل حرامًا يعد كافرًا على ما سنفصله عند الكلام في أنواع الاستحلال.

ومن تمام القول نذكر قولاً للشيخ رشيد رضا يثبت فيه أن الاستحلال يأتي بعد الجحود؛ فعندما تطرق إلى حكم ترك الشعائر التعبدية الكبرى قال: (ذهب بعض أئمة العلم إلى أن للصلاة والزكاة شأنًا ليس لغيرهما من أركان الإسلام وشرائعه، حتى المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وهو أن تركهما يعد كفرًا بمعنى الخروج من الملة بعد الدخول في الإسلام أو النشوء فيه، حتى مع الاعتراف بحقيته، وكونهما من أركانه، ويقول بعضهم بأن تاركهما يقتل حدًّا لا كفرًا، وقال بعضهم بذلك في الصلاة وحدها، وأن صيام رمضان وحج البيت على المستطيع لا يكفر تاركهما إلا إذا استحل هذا الترك أو جحد وجوبهما بعد العلم الذي تقوم به الحجة، أي: لأن الاستحلال عبارة عن رفض الإذعان النفسي والفعلي، وهو كنه الإسلام، والجحود عبارة عن عدم الاعتقاد أو الاستكبار عنه وهو كنه الإيمان) (رضا، تفسير المنار، (مرجع سابق)، ج10، ص205)، وحيث إن الإيمان أعلى من الإسلام فإن في المقابل الجحود أشد من الاستحلال.
3- أنواع الاستحلال

والاستحلال نوعان؛ استحلال اعتقادي واستحلال عملي. فأما الاستحلال الاعتقادي فهو الاستحلال القلبي، وهو من يعتقد جازمًا حل ما حرمه الله وهذا النوع مخرج من الملة، وأما الاستحلال العملي فله صورتان؛ صورة تخرج من الملة كالذي يُلقي المصحف أو يسب الله تعالى أو الأنبياء، وصورة لا تخرج من الملة كالذي يفعل الحرام أو يترك الحلال دون أن يجحده أو ينكره.

والاستحلال العملي علامة من علامات القيامة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر (الحِر: الفرج. انظر: ابن حجر. أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (القاهرة: دار الحديث، ط1، 1419هـ-1998م)، ج10، ص68) والحرير والخمر والمعازف» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه)، وإنما قلنا إن الاستحلال الوارد في الحديث هو الاستحلال العملي (وإن كان ابن العربي يرى أن الحديث يحتمل المعنيين فقال: (يحتمل أن يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالا، ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على الاسترسال أي يسترسلون في شربها كالاسترسال في الحلال). ابن حجر، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، (مرجع سابق)، ج10، ص68-69)؛ لأن الرسول r لم يُخرج المستحلين من أمته فدل على إبقاء إسلامهم مع استحلالهم لهذه المحرمات؛ فالاستحلال العملي لا يخرج صاحبه من الملة، وهو ما يؤكده الشيخ ابن عثيمين عند شرحه للحديث السابق فيقول: (وهل الاستحلال هنا اعتقاد أنها حلال، أو ممارستها كممارسة الحلال؟! الجواب: الثاني؛ لأن اعتقاد أنها حلال قد يُخرج من الإسلام، إذا اعتقد أن الخمر حلال وهو في أمة الإسلام قد عاش وفهم ذلك كان مرتدًا، لكن المراد يستحلونها أي يفعلونها فعل المستحل لها فلا ينكرونها ولا يدعونها) (ابن العثيمين. محمد بن صالح بن محمد، الشرح الممتع على زاد المستقنع، (السعودية: دار ابن الجوزي، ط1، 1422هـ)، ج10، ص220).
المحور الثاني
ضوابط الاستحلال المكفر

إن أطروحة تكفير الآخر والحكم عليه بالردة لمجرد الاشتباه في أنه استحل ما حرمه الله أمر مخالف لما عليه العلماء والفقهاء قديمًا وحديثًا؛ فقد وضع العلماء قيودًا للاستحلال المكفر يجب مراعاتها قبل الحكم على تكفير الآخرين وإخراجهم من الملة، ونحن هنا نضع أهم ضوابط الاستحلال المكفر:
1- أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله:

الاعتقاد بحل ما حرمه الله بقلبه معناه الرضا والاطمئنان إلى الكفر؛ فهذا مخرج من الإسلام؛ لهذا قال القنوجي: (فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه) (القنوجي. أبو الطيب صديق بن حسن بن علي، الروضة الندية شرح الدرر البهية، (بيروت: دار الجيل)، ج2، ص291-292).

فالضابط الأول أن من اعتقد حل ما حرم الله وكان معلومًا من الدين بالضرورة كفر، وهو المقصد الأول عند إطلاق كفر الاستحلال؛ ففي هذه الحالة لا يكفر إلا بضوابط، وهي:
2- أن يصرح الشخص استحلاله المعصية بلسانه أو بقلمه:

فإذا صدر من الشخص قول يستحل به ما حرم الله، كأن يقول إن الخمر حلال وليست حرامًا وأن الربا حلال وليس حرامًا، أو يكتب بقلمه ذلك وينشره ويعني ما يقول أو يكتب، فيكون في هذه الحالة مستحلاً أوجب على نفسه الكفر، قال ابن العثيمين: (وأما الاستحلال الفعلي فينظر إن كان هذا الفعل نفسه مما يكفر فهو كافر، كافر بالفعل، فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا، ولا يعتقد أنه حلال لكنه مصر عليه، فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله، ولكن لو قال: إن الربا حلال، وهذا يعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله. فالاستحلال إذًا: استحلال فعلي، واستحلال عقدي بقلبه. فالاستحلال الفعلي ينظر فيه للفعل نفسه، هل يكفر أم لا؟ ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به، لكنه من كبائر الذنوب) (ابن العثيمين، لقاءات الباب المفتوح، (مرجع سابق) لقاء 50).

وسئل الشيخ الفوزان عن الضوابط التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها لكي يحكم على فلان من الناس بأنه مستحلٌ للمعصية -المجمع على تحريمها-؟ فأجاب: (الضوابط التي تدل على استحلال المعصية: أن يصرح الشخص بأنها حلال: إما بلسانه، وإما بقلمه؛ يعني: يكتب أنها حلال، أو يقول إنها حلال؛ حينئذٍ يُحكم عليه أنه مستحل لها. وبدون ذلك لا يُحكم على استحلاله لها) (محاضرة له بعنوان: «ظاهرة التبديع والتفسيق والتكفير وضوابطها»).
3- أن يفعل معصية مكفرة لا تحتمل غير التكفير:

ليست كل معصية توجب التكفير؛ فالتي توجب التكفير هي المعصية التي إن فعلها صاحبها -عن وعي وإدراك- لكونها مناقضة للإيمان بالله ورسوله r كمن يسجد لصنم أو لشمس، وفي هذا صرح الإمام النووي فقال: (والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها) (النووي. أبو زكريا يحيى بن شرف، روضة الطالبين، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، (بيروت: دار عالم الكتب، 1423هـ-2003)، ج7، ص283-284)، ويقول الإمام ابن قيم: (وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارًا وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف) (ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، كتاب الصلاة وحكم تاركها، تحقيق عبد الله المنشاوي، (القاهرة: مكتبة الإيمان)، ص30-31).
4- أن تكون المعصية المستحلة مجمعًا على تحريمها:

وضابط آخر يضاف إلى ما سبق وهو أنه لكي نعتبر المستحل كافرًا يجب أن يكون الذنب الذي فعله قد وقع الإجماع بين الفقهاء على تحريمه، أما إذا كان الذنب مختلَفا في حكمه فإنه لا يكفر من اعتقد حله، وبهذا قال الإمام ابن تيمية: (والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع - المجمع عليه - كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء) (ابن تيمية. تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، (دار الوفاء، ط3، 1426هـ -2005م)، ج3، ص267). وهو ما ذهب إليه الشيخ صالح في شرح للعقيدة الطحاوية، فقال: (أنَّ الذي ينفعُ فيه ضابط الاستحلال هي الذنوب المجمع على تحريمها، المعلومة من الدين بالضرورة. أما إذا كان الذنب مختلَفًا فيه إما في أصله أو في صورة من صوره فإنه لا يُكَفَّرُ من اعتقد حل هذا الأصل المُخْتَلَفْ فيه يعني في أصله أو الصورة المختلف فيها) (الشيخ صالح آل الشيخ، إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، شريط رقم 26. وانظر: الشمري، مهدي بن عماش، الوافي اختصار، شرح عقيدة أبي جعفر الطحاوي لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، (الرياض: دار البينة، ط1، 1427هـ-2006م)، ص138).

ونزيد الأمر تفصيلا لأهميته، فشرب الخمر وقتل المسلم بغير حق والزنا وعمل قوم لوط كل هذه من المحرمات المجمع على تحريمها عند المسلمين فاستحلالها كفر، وبذلك قال الفقهاء؛ كما روى صاحب التاج والإكليل أن عياضا قال: (وكذا أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر، أو شيئا مما حرم الله بعد علم هذا بتحريمه) (المواق. أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم، التاج والإكليل لمختصر خليل كتاب على هامش مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1422هـ-2002م)، ج6، ص3250، وانظر: عليش. محمد، شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، (بيروت: دار الفكر، 1409هـ-1989م)، ج9، ص210). وجاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في معرض ذكره ما يكفر وما لا يكفر- قوله: (..."أو حلل محرمًا بالإجماع" قد عُلم تحريمه من الدين بالضرورة ولم يَجُز خفاؤه عليه "كالزنا" واللواط وشرب الخمر والمكس إذ إنكاره ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد r فيه تكذيب له r "وعكسه" أي حرم حلالاً مجمعًا عليه) (الرملي. شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط3، 1413هـ-1993م)، ج7، ص415).

وقال صاحب المغني: (ومن اعتقد حِل شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنى وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر) (ابن قدامة. موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمود، المغني، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج10، ص85).

وإذا كان جمهور العلماء قد ذهبوا إلى تكفير من استحل ما ثبت بالإجماع فإن الأحناف اتخذوا مسلكًا آخر وإن كان في جوهره لا يخرج عن قول الجمهور؛ فهم يرون أن الذي يكفر هو المستحل لحكم ثبت بدليل قطعي وكان حرامًا لعينه؛ جاء في البحر الرائق: (من اعتقد الحرام حلالاً أو على القلب يكفر إذا كان حرامًا لعينه (الحرام لذاته: هو ما حكم الشارع ابتداء ومن أول الأمر، مثل القتل، والسرقة، وأكل لحم الخنزير. والحرام لغيره: وهو ما يكون مشروعا في الأصل واقترن بعارض اقتضى تحريمه كالصلاة في ثوب مغصوب، والبيع وقت نداء الجمعة الثاني. انظر: الزحيلي. وهبة، أصول الفقه الإسلامي، (دمشق: دار الفكر، ط1، 1406هـ-1986م)، ج1، ص81-82) وثبتت حرمته بدليل مقطوع به، أما إذا كان حرامًا لغيره بدليل مقطوع به أو حرامًا لعينه بأخبار الآحاد لا يكفر إذا اعتقده حلالا. ا هـ. فعلى هذا لا يفتى بتكفير مستحله لما في الخلاصة أن المسألة إذا كان فيها وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه) (ابن نجيم. زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (القاهرة: المطبعة العلمية، ط1، 1310هـ)، ج1، ص207).

ويشترط الغزالي التواتر فيقول: (واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة، وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول e بالتواتر) (الغزالي، أبو حامد، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، (ط1، 1413هـ-1993م)، ص62). فما اشتراط الغزالي رحمه الله هذا التواتر إلا ليغلق الباب أمام الغلو في تكفير المسلم لأخيه المسلم.

5- أن لا يكون الاستحلال بتأويل أو جهل:

يعتبر التأويل مانعًا من موانع تكفير المستحل، يقول عبد القادر عودة: (أما إذا كان الاستحلال بتأويل كما هو حال الخوارج فأكثر الفقهاء لا يرون كفر الفاعل، وقد عرف عن الخوارج أنهم يكفِّرون كثيرًا من الصحابة والتابعين ويستحلون دماءهم وأموالهم ويعتقدون أنهم يتقربون إلى الله جل شأنه بقتلهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك الحكم في كل محرم استُحل بتأويل فلا يعتبر فاعله مرتدًا) (عوده. عبد القادر، التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، ج2، ص707) وسبقه في هذا المذهب ابن الوزير مستدلاً من نص الكتاب العزيز فقال: (فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل، الآية: 106]، يؤيد أن المتأولين غير كفار، لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظناً أو تجويزًا أو احتمالاً) (ابن الوزير. أبو عبد الله محمد بن المرتضى، إيثار الحق على الخلق، (القاهرة: مطبعة الآداب، 1318هـ)، ص437).

ولذلك لم يكفر الفقهاء قدامة بن مظعون لما حلل الخمر وشربها لأنه استحلها بتأويل، قال الجصاص: (وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلاً لشربها وإنما تأول الآية) (الجصاص. أبو بكر أحمد بن علي الرازي، أحكام القرآن، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1412هـ-1992م)، ج4، ص 129).

ومن المهم أن ننبه إلى أنه لا يعتبر التأويل ضابطًا من ضوابط تكفير الاستحلال إذا قام الدليل القاطع بعدم اعتبار التأويل، فلا يعتبر التأويل مشروعًا إذا كان في لفظ صراح كما قال الفقيه حبيبُ ابنُ الرَّبيع: (..ادّعاءُ التأويل في لفظٍ صُراح ٍلا يُقْبَلُ) (القاضي عياض. أبو الفضل اليحصبي، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، (بيروت: دار الكتب العلمية)، ج2، ص217).

ويعتبر الجهل بالحكم مانعًا من تكفير المستحل، فلو أن رجلا استحل حرامًا جهرًا وهو لا يدري كأن يكون حديث عهد بالإسلام لا يكفر حتى تقوم الحجة عليه، ونذكر هنا واقعة حدثت أمام الرسول r تدل على أن العذر بالجهل مانع من التكفير؛ فقد روي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله r لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي r: «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم» (الترمذي، سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم) فالصحابة كانوا يجهلون حقيقة ما صدر منهم فلم يكفرهم الرسول r ولكن عذرهم الرسول r لجهلهم، وبين خطأهم.

وجهل الناس بالأحكام الشرعية قد يتكرر بعد الرسول r إذا تطاول الزمن وانعدم من يبلغ دعوة الإسلام؛ ففي هذه الحالة ينشأ جيل لا يعرف كثيرًا من الأحكام الشرعية؛ الأمر الذي يوقعهم في ممارسة الحرام وهم لا يدرون، وربما يتقربون به إلى الله ظنًّا منهم أنه هو الصواب، فمثل هؤلاء لا يحكم بكفرهم حتى تقوم عليهم الحجة، وبهذا أوضح الإمام ابن حزم فقال: (ولو أن امرءا بدَّل القرآن مخطئًا جاهلاً أو صلَّى لغير القبلة كذلك ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند الله تعالى ورسوله r فهو كافر مشرك) (ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد، الإحكام في أصول الأحكام، بيروت: دار الافاق الجديدة، ط1)، ج1، ص149).

المحور الثالث
حكم من الاستحلال وبعض مسائله

سبق وأن ذكرنا أن الاستحلال نوعان؛ استحلال اعتقادي واستحلال عملي، وقلنا إن الاستحلال الاعتقادي يخرج من الملة، بعكس الاستحلال العملي فهو ليس بالضرورة أن يكون مخرجًا من الإسلام، فهذا الأخير اختلف الفقهاء في حكمه وإن اتفقوا على تكفير من استحل محرمًا مجمعًا على تحريمه وقد سبق الكلام عنه في ضوابط الاستحلال المكفر، وهذه بعض المسائل في الاستحلال:
1- استحلال ترك الشعائر التعبدية:

يقصد باستحلال ترك الشعائر التعبدية: ترك أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين -الصلاة والصيام والزكاة والحج- وهي شعائر عظيمة عند الله تعالى حيث أمر المسلمين بتعظيمها فقال: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فاستحلال ترك هذه الأركان قد يكون بالاعتقاد مستحلا لتركها، وقد يكون بالفعل تهاونًا وتكاسلاً، فإن كان بالاعتقاد فهو كافر لا ريب فيه وهو أمر مجمع عليه؛ قال القرطبي رحمه الله: (ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحِلاً كفر) (القرطبي. أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، (الرياض: دار عالم الكتب، 1423هـ- 2003م)، ج8، ص74)، وقال ابن نجيم في شأن تارك الصلاة جحودًا: (ترك الصلاة عمدًا كسلاً يُضرب ويُحبس حتى يصليها ولا يُقتل، وإذا جحد واستخف وجوبها يُقتل) (ابن نجيم، البحر الرائق، (مرجع سابق)، ج2، ص97). وقال أيضًا في ترك الصوم جحودًا: (وفي فتاوى البزازية أن من أكل نهارًا في رمضان عيانا عمدا شهرة يقتل؛ لأنه دليل الاستحلال) (ابن نجيم، البحر الرائق، (مرجع سابق) ج2، ص299). وقال في هذا الشأن الحطاب المالكي: (أجمعت الأمة على وجوب صيام رمضان فمن جحد وجوبه فهو مرتد، ومن امتنع من صومه مع الإقرار بوجوبه قتل حدًّا على المشهور من مذهب مالك) (الحطاب. أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1422هـ-2005م)، ج2، ص447).

أما إن كان استحلال ترك هذه الشعائر استحلالاً عمليًّا لتكاسل أو تهاون مع إقراره بوجوبها فإنه مما اختلفت فيه الأنظار؛ قال الإمام ابن تيمية: (ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئًا من هذه الفرائض الأربع بعد الإقرار بوجوبها) (ابن تيمية. مجموع الفتاوى، (مرجع سابق) ج7، ص609)، وقال الحافظ ابن رجب: (وأما زوال الأربع البواقي: فاختلف العلماء هل يزول الاسم بزوالها أو بزوال واحد منها أم لا يزول بذلك أم يفرق بين الصلاة وغيرها فيزول بترك الصلاة دون غيرها أم يختص زوال الإسلام بترك الصلاة والزكاة خاصة؟ وفي ذلك اختلاف مشهور) (ابن رجب. زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن شهاب الدين، فتح الباري، تحقيق أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، (الدمام: دار ابن الجوزي، ط2، 1422هـ)، ج1، 20-21)، ومن صور الاختلاف في هذا الشأن ما أورده المرداوي في الإنصاف فقال: (وإن ترك شيئًا من العبادات الخمس تهاونًا: لم يكفر. يعني إذا عزم على أن لا يفعله أبدا استتيب وجوبًا كالمرتد فإن أصر لم يكفر ويقتل حدًّا. جزم به في الوجيز. وقدمه في المحرر وغيره. وصححه في النظم وغيره. وعنه يكفر إلا بالحج لا يكفر بتأخيره بحال. وعنه يكفر بالجميع نقلها أبو بكر. واختارها هو وابن عبدوس في تذكرته. وعنه يختص الكفر بالصلاة وهو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب. قال ابن شهاب هذا ظاهر المذهب. وقدمه في الفروع. وقال اختاره الأكثر. وعنه يختص الكفر بالصلاة والزكاة. وعنه يختص بالصلاة والزكاة إذا قاتل عليهما الإمام. وجزم به بعض الأصحاب. وعنه لا يكفر ولا يقتل بترك الصوم والحج خاصة) (المرداوي. علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، (ط1، 1375هـ-1956م)، ج10، ص327-328).

ويذكر القرطبي شأن اختلاف العلماء في الصلاة فيقول: (أما ما الواجب على من تركها عمدًا، وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودًا لفرضها؟ فإن قومًا قالوا: يقتل، وقومًا قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حدًّا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأصحابه، وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي) (ابن رشد القرطبي. أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (بيروت: دار المعرفة، ط6، 1402هـ-1982م)، ج1، ص90).

وكل ما ذكرناه لخصه صاحب كتاب منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين بقوله: (وقد ذكر العلماء- رحمهم الله- تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام، وترجع كلها إلى جحد ما جاء به الرسول e، أو جحد بعضِه غير متأول في جحد البعض) (السعدي. عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله، منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1424هـ-2003م)، ص272)، وهذا الذي ذكر يصلح أن تكون قاعدة ضابطة في شأن استحلال العبادات مفادها أن لا يكفر مستحل العبادات ما لم يجحدها.
2- استحلال شرب الخمر

لا شبهة في حرمة الخمر وقد أجمعت الأمة على ذلك وكفى بالإجماع حجة كما قال السرخسي (انظر: السرخسي. شمس الدين، كتاب المبسوط، (القاهرة: دار السعادة، ط1، 1324هـ)، ج24، ص3)، ولكن شاربها يقام عليه الحد ولا يكفر ما لم يستحلها ولو أصرّ على شربها لما روي أن رجلاً على عهد النبي r كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا وكان يُضحك رسول الله r وكان النبي r قد جلده في الشراب؛ فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم، اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي r: «لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب الحدود، بابما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة). فلسماحة الإسلام ورحمته شهد الرسول r لهذه الرجل بمحبة الله ورسوله، وهذا دليل إيمانه وكفى به شهادة. أما من استحل شرب الخمر فإن الفقهاء اتفقوا على تكفيره، قال القاضي عياض: (وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله) (عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، (مرجع سابق)، ج2، ص287).

أما المسكرات الأخرى غير الخمر كالنبيذ وغيره فإنه لا يكفر مستحله للاختلاف في حكمه، وبهذا جزم أبو البركات النسفي في كنز الدقائق؛ فقال بعد أن عدد المسكر الأخف حرمة من الخمر: (والكل حرام إذا غلا واشتد وحرمتها دون حرمة الخمر فلا يكفر مستحلها بخلاف الخمر) (الطوري. محمد بن حسين بن علي، تكملة البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (القاهرة: المطبعة العلمية، ط1، 1310هـ)، ج8، ص248. البحر الرائق شرح كنز الدقائق حيث انتهى إلى لجزء السابع وأما الجزء الثامن فهو تكملة له). وحتى الذين يرون حرمة كل مسكر فإنهم لا يكفرون مستحلها للخلاف الواقع فيها كما فصل ذلك ابن عبد البر في الاستذكار (انظر: ابن عبد البر. أبو عمر يوسف بن عبد الله، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، تحقيق سالم محمد عطا- محمد علي معوض، (بيروت: دار الكتب العلمية، 2000م)، ج8، ص 26)، ومنهم من ذهب إلى تفسيق من شرب غير الخمر كالإمام الشيرازي حيث قال: (من شرب قليلاً من النبيذ لم يفسق ولم تُرد شهادته. ومن أصحابنا من قال: إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته والمذهب الأول؛ لأن استحلال الشيء أعظم من فعله، بدليل أن من استحل الزنا كفر ولو فعله لم يكفر، فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلأن لا تُرد شهادة من شربه أولى ويجب عليه الحد) (الشيرازي. أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف، المهذب في فقه الشافعي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1416هـ-1995م)، ج3، ص439).

والخلاصة أن المسكرات غير الخمر لا يكفر مستحلها للاختلاف الواقع فيها.
3- استحلال فعل السحر أو تعلمه:

السحر حرام بلا خلاف بين العلماء لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]، وقوله r للصحابة رضوان الله عليهم: «اجتنبوا السبع الموبقات». قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب المحاربين، باب رمي المحصنات)، وقد وقع الخلاف في حكم استحلال فعل السحر أو تعلمه.

فلم يشترط الجمهور الاستحلال في فعل السحر، فعندهم من فعل السحر كفر بينما اشترط الشافعية الاستحلال، قال ابن عابدين: (السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم واعتقاد إباحته كفر، عن أصحابنا ومالك وأحمد يكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد الحرمة أو لا ويقتل... وعند الشافعي لا يقتل ولا يكفر إلا إذا اعتقد إباحته) (ابن عابدين. محمد أمين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ-1994م)، ج6، ص381-382). وشدد بعض الحنابلة في النكير على فعل السحر وتعلمه، فجاء في المغني لابن قدامة عن الحنابلة ما نصه: (قال أصحابنا ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. إن كانت هناك رواية عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يكفر، فإن حنبلا رحمه الله روى عنه قال: قال عمِّى في العراف والكاهن والساحر أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلها، فإنه عندي في معنى المرتد، فإن تاب وراجع يعني يخلي سبيله: قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس لعله يرجع. قلت له: لِمَ لا تقتله؟ قال: إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع. وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله) (ابن قدامة، المغنى، (مرجع سابق)، ج10، ص114-115).

والكلام السابق كان في نوع واحد من السحر وهو السحر المكفر، أما باقي الأنواع فلا يكفر مستحله، جاء في شرح السنة للبغوي: (وعند الشافعي يقتل الساحر إن كان ما يسحر به كفرًا إن لم يتب، فإن لم يبلغ عمله الكفر، فلا يقتل، وتعلم السحر لا يكون كفرًا عنده إلا أن يعتقد قلب الأعيان منه، وذهب قوم إلى أن تعلمه كفر، وهو قول أصحاب الرأي) (البغوي. الحسين بن مسعود، شرح السنة، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، (دمشق: المكتب الإسلامي، ط2، 1403هـ - 1983م)، ج10، ص240)، وقال تقي الدين الفتوحي: (وساحر يركَب المكنسة فتسير به في الهواء، ونحوه، كافر كمعتقد حله، لا من يسحر بأدوية، وتدخين، وسقي شيء يضر، ويعزر بليغا) (الفتوحي، منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات، (مرجع سابق)، ح5، ص174). وهذا يقودنا إلى عدم التسرع في تكفير كل من قام بأفعال يظنها الناس سحرًا وهي ليست كذلك؛ لأنه ينبني عليه إخراج المسلمين من دينهم فلخطورة الموضوع قال القرافي: (أطلق المالكية وجماعة معهم الكفر على الساحر وأن السحر كفر ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة، غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيه الغلط العظيم المؤدي إلى هلاك المفتي والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر وما حقيقته حتى يقضى بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جدًّا) (القرافي. أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي، الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ - 1998م)، ج4، ص 269-270)؛ لهذا خص الإمام القرافي هذا الموضوع بالبيان والتفصيل في كتابه: (الفروق أو أنوار البروق في أنواء الفروق) تحت عنوان: (الفرق الثاني والأربعون والمائتان في بيان ما هو سحر يكفر به وبين قاعدة ما ليس كذلك)، فليراجع هذا الفرق فإن فيه فوائد لا يستغني عنها باحث.
4- استحلال أموال المسلمين ودمائهم

أبرز من أظهر استحلال أموال المسلمين ودمائهم هم الخوارج؛ جاء في البناية شرح الهداية: (هم قوم مسلمون خرجوا عن طاعة الإمام العدل بحيث يستحلون قتل العادل وماله بتأويل القرآن، ودانوا ذلك وقالوا: من أذنب صغيرة أو كبيرة فقد كفر وحل قتله إلا أن يتوب، وتمسكوا بظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 14]) (العيني. أبو محمد محمود بن أحمد، البناية في شرح الهداية، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1400هـ-1980م)، ج3، ص420).

ومع هذا لم يكفر أحد من الفقهاء الخوارج لمجرد استحلالهم أموال المسلمين ودمائهم، حتى قال النووي في روضة الطالبين نقلا عن الإمام الشافعي وفقهاء الشافعية: (قال الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم لو أظهر قوم رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وكفروا الإمام ومن معه، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الإمام لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل، عزروا، وإن عرضوا ففي تعزيرهم وجهان، قلت أصحهما لا يعزرون قاله الجرجاني وقطع به صاحب التنبيه) (النووي. أبو زكريا يحيى بن شرف، روضة الطالبين، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، (الرياض: دار عالم الكتب، 1423هـ-2003م)، ص7، ج272).

ويرى ابن قدامة -رحمه الله- أنه إذا استحل شخص قتل المعصومين، وأخذ أموالهم، بغير شبهة ولا تأويل، فإنه يكفر وإن كان بتأويل فلا يكفر عند أكثر الفقهاء، يستشهد لذلك بحال الخوارج بل يرى أن ابن ملجم لم يحكم بكفره مع أنه قتل عليًّا رضي الله عنه (انظر: ابن قدامة، المغني، (مرجع سابق)، ج10، ص85-86).

وعليه فمن سلك سبيل الخوارج في القتل وسلب أموال الناس على التأويل لا يكفر ويعامل معاملة البغاة، أما من أخذ أموال الناس وسفك دماءهم مستحلا ذلك بغير تأويل سائغ فهو كافر.
5- استحلال سب النبي r

إن سب النبي e من أعظم الذنوب التي توجب الكفر وذلك للنصوص الكثيرة الواردة في ذلك منها على سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].

كما أن الرسول r أهدر دم الذين كانوا يسبونه ويشتمونه منهم ابن الأخطل؛ فقد ثبت في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري عن أنس؛ أن رسول الله r دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال: «اقتلوه» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب الحج، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، حديث رقم: 1715. مسلم، صحيح مسلم، كتاب الحج، باب جواز دخول مكة بغير إحرام)، لهذا أجمعت الأمة على كفر من سب الرسول r (انظر: القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى (مرجع سابق)، ج2، ص 214. وبعض أقوال العلماء في: ابن تيمية. الصارم المسلول، (مرجع سابق)، ج1، ص526. ابن تيمية. الصارم المسلول، (مرجع سابق)، ج1، ص526. ابن باز. عبد العزيز بن عبد الله، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع وإشراف الدكتور محمد بن سعد الشويعر، (الرياض: دار القاسم، ط1، 1420هـ)، ج6، ص254). وممن نقل الإجماع أبو إسحاق بن راهوية فقال: (وقد أجمع المسلمون أن من سب نبيا من أنبياء الله أو سب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بما أنزل الله) (ابن تيمية، الصارم المسلول، (مرجع سابق)،ج1، ص 513).

والسؤال هنا هل يشترط الاستحلال في تكفير من سب الرسول r أو لا يشترط؟

والجواب أن أقوال العلماء وآراءهم تشير إلى أنه لا يشترط الاستحلال في سب الرسول r لأن السب فيه إظهار الانتقاص للرسول r وعدم الرضا به، إلا أننا يمكن أن نقول إن هناك مِن السب ما يحمل على غير السب الحقيقي، بمعنى أن السب الشكلي قد يطلق عليه البعض أنه سب لكنه في حقيقته ليس بسب، ولعل هذا أحد اعتذارات القاضي عياض لفقهاء العراق الذين أفتوا هارون الرشيد بجلد شاتم الرسول فقال: (ولا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ولعلهم ممن لم يشهر بعلم أو من لا يوثق بفتواه أو يميل به هواه أو يكون ما قاله يحمل على غير السب فيكون الخلاف هل هو سب أو غير سب أو يكون رجع وتاب عن سبه فلم يقله لمالك على أصله وإلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه أو تنقصه r فقد ظهرت علامة مرض قلبه وبرهان سر طويته وكفره)( قاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، (مرجع سابق)،ج2، ص223).



المحور الرابع
الرد على شبهات في مسائل الاستحلال
1- مسألة الإصرار على المعصية

قد يعتبر من لا علم له ولا فقه لديه أن المصر على المعصية مستحل، وأنه بإصراره على معصيته قد خرج من ملة الإسلام، وهذا فهم خاطئ يحتاج إلى تصحيح.

الرد على الشبهة:

والصحيح أن مجرد الإصرار على فعل المعصية لا يعني أنه استحلال لها، ولا يكفر فاعل المعصية ما دام يعلن إسلامه؛ لأن من دخل إلى الإسلام بيقين لا يخرج منه إلا بيقين كما تقول القاعدة، كما أنه تعددت النصوص النبوية الشريفة في عدم خلود المسلم العاصي في النار(ينظر هذه الروايات وأراء العلماء في شأنها في: القرضاوي. يوسف، ظاهرة الغلو في التكفير، (الكويت: مكتبة المنارة الإسلامية، ط2، 1405هـ-1985م)، ص44-54.  السامرائي. نعمان عبد الرزاق، التكفير جذوره أسبابه مبرراته، (دمشق: المنارة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1401هـ-1984م، )، ص181-18)، من ذلك ما روي عن أنس عن النبي r قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه)؛ فالشاهد أن هذا الرجل مات على توحيد الله وقد أكثر من المعاصي قبل وفاته ومع ذلك لم تخرجه هذه المعاصي من الإسلام؛ لأنه لو كان خارجا عن الإسلام لما دخل الجنة والتي هي محرمة على الكافرين، وهذا يدل على سعة رحمة الله بعباده المسلمين.

وما يعزز ما قلناه حديث البطاقة، الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص حيث قال: قال رسول الله r: «إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل هذا ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب فيقول: أفلك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» (الحاكم. محمد بن عبد الله أبو عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1411 – 1990)، ج1، ص46. صحح الحديث الحاكم ووافقه الذهبي).

والأحاديث الواردة في هذا توجب عدم خلود المصر على المعصية في النار إن مات على التوحيد، ولئن كانت المعاصي تخدش إيمان العبد وتنقصه فإنها لا تنفيه عنه بالكلية، وفي هذا رد على من يكفر بمجرد المعصية دون استحلال، كما أنه يلجم كباح المتسرعين في تكفير المسلمين قبل معرفة أحوالهم، وبهذا قال العلماء قديما وحديثا، فقال الإمام مالك: (إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئًا وجبت له أرفع المنازل؛ لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء) (الشاطبي، الاعتصام، (مرجع سابق)، ص461). ويقول الشيخ القرضاوي ردا على من يقول إن المعصية تهدم الإيمان: (لو كانت تهدم الإيمان من أصله، وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق، لكانت المعصية والردة شيئا واحدا، وكان العاصي مرتدا، ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر والقاتل. وهذا مرفوض بالنص والإجماع) (القرضاوي. يوسف، ظاهرة الغلو في التكفير، (الكويت: مكتبة المنار الإسلامية، ط2، 1405هـ-1985م)، ص45).

وانتشار الفساد وعمل المحرمات في هذا العصر دفع البعض إلى التسرع والحكم على الناس بالكفر مما دفع العلماء للرد والتوضيح كما هو الحال مع الشيخ الألباني عندما قال: (فكل المعاصي - وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنى، وشرب الخمر وغيرها - هي من الكفر العملي، فلا يجوز أن نكفر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عمليا إلا إذا ظهر -يقينا- لنا منهم -يقينا- ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله اعتقادا؛ فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة. أما إذا لم نعلم فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم؛ لأننا نخشى أن نقع تحت وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (رواه البخاري بلفظ "..فقد باء فيه..". البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال))( الألباني. محمد ناصر الدين، فتنة التكفير، تعليق محمد بن صالح العثيمين، (الرياض: دار ابن خزيمة للنشر والتوزيع، ط2، 1418هـ-1997م)، ص32).

وعلى كل حال فإن المُصر على المعصية مثله مثل الذي جمع الإيمان والكفر في قلبه، وفعل هذا الأخير أجازه علماء أهل السنة والجماعة؛ قال الإمام ابن قيم: (وههنا أصل آخر، وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإ

???1
زائر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  ???1 الخميس أكتوبر 10, 2013 5:55 pm

قال الإمام ابن قيم: (وههنا أصل آخر، وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. هذا من أعظم أصول أهل السنة وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل) (ابن قيم الجوزية، كتاب الصلاة وحكم تاركها، ص35).
2- التفريق بين المسائل العلمية والمسائل العملية في كفر الاستحلال
من أهل العلم من جعل التكفير في الاعتقادات أو جعله في المسائل العلمية، فقال: العملية لا نكفر فيها إلا بالاستحلال، وأما المسائل العلمية التي دخل فيها أهل الأهواء والبدع فإننا نكفر المخالف فيها (انظر: الشيخ صالح آل الشيخ، إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، شريط رقم 26. وانظر: الشمري،، الوافي اختصار، شرح عقيدة أبي جعفر الطحاوي (مرجع سابق)، ص138).

الرد على الشبهة:

الصحيح أن المسائل العلمية التي تصدر من أهل البدع ليس على درجة واحدة؛ لأن ما يصدر عنهم وهو مخالف لظاهر الكتاب والسنة قد يكون صدر عن خطأ أو اجتهاد أو غلو أو تأويل، كما أنه قد يصدر عنهم الكفر الصريح وهذا الأخير هو الذي يكفر به أهل البدع؛ قال ابن حجر الهيثمي: (الصواب عند الأكثرين من علماء السلف والخلف أنا لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بكفر صريح لا استلزامي؛ لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم، ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلاة على موتاهم ودفنهم في مقابرهم) (المباركفوري. أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، (نارس الهند: إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية، ط3، 1404 هـ، 1984م)، ج1،ص193).

فتعود الأخطاء التي وقع فيها أهل البدع إلى سلوكهم مناهج خاطئة أدت إلى صدور آراء شاذة مخالفة لآراء أهل السنة والجماعة، فكلما اقتربت مناهجهم إلى مناهج أهل السنة والجماعة اقتربت آراؤهم كذلك إلى الرأي الصواب، فالخلاصة أنه اختلفت مناهج أهل البدع في التكفير فاختلفت آراؤهم كما اختلفت أحوال بدعهم، ومن أحوالهم البدعية المختلفة ما ذكره العلامة صالح آل الشيخ، وهي (الشيخ صالح آل الشيخ، إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، شريط رقم 26 (مرجع سابق)):

- قد تكون ذنبًا يوصله إلى الكفر.

- قد تكون ذنبًا فيما دونه.

- وقد يكون سَلَكَ البدعة عن جهة الغلط منه والخطأ أو الجهل.

- وقد يكون تأول في ذلك.

وعليه لا يصح شرعًا أن نحكم على مبتدع من أهل القبلة بعينه بالكفر بمجرد ما صدر عنه من أقوال للاحتمالات السابقة، وهذا ما هو عليه السلف الصالح في عدم تكفير أهل البدع، قال الإمام ابن حزم بعد أن أورد آراء الطوائف في تكفير الناس لما صدر منهم مسائل الاعتقاد: (وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك، فدان بما رأى أنه الحق، فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد، وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم، وهو قول كل من عرفنا له قولا في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم، لا نعلم منهم في ذلك خلافا أصلا إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمدا حتى خرج وقتها، أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر) (ابن حزم. أبو محمد علي بن أحمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر، والدكتور عبد الرحمن عمير، (بيروت: دار الجيل، ط2، 1416هـ-1996م)، ج3، ص291).

ونؤكد على ما ذكرنا بحديث لرسول الله r هو الفيصل في بيان ما يكفر وما لا يكفر في المسائل العلمية فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: « كان رجل يسرف على نفسه؛ فلما حضره الموت قال لبنيه إذ أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح؛ فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا. فلما مات فعل به ذلك؛ فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه؛ ففعلت؛ فإذا هو قائم؛ فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رب خشيتك؛ فغفر له» (البخاري، صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9])، فهذا الرجل ظن أن الله غير قادر على إعادة جمعه مرة ثانية فهو بهذا شك في القدرة الإلهية، فصدر منه هذا القول المكفر في الظاهر ومع ذلك لم يكفر به لجهله بقدرة الله، بدليل أن ما فعله ليس ندا لله تعالى ولا نكرانا بل ما فعله خشية لله وقد علم الله صدق نيتيه فغفر له، وقد علَّمنا الله سبحانه وتعالى سنة التبين وذلك عندما قال الله له «ما حملك على هذا».

لهذا نقول ختاما: إنه ينبغي الالتزام بقاعدة الاستفسار عن حال الشخص قبل الحكم عليه، وهي قاعدة عظيمة في حفظ نفوس الناس ذكرها الإمام ابن حجر الهيثمي فقال: (من تكلم بمحتمل للكفر لا يحكم عليه به حتى يستفسر) (ابن حجر الهيثمي، الفتاوى الفقهية الكبرى، (بيروت: دار الفكر)، ج4، ص239).
3- العمل بالقوانين والاستحلال

يرى البعض أن العمل بالقوانين نوع من الإباحة المؤدي إلى الاستحلال، ويبررون على ذلك بما يلي:

1- منـح التراخيـص التجـارية لمزاولة المحرمات، كالترخيص للبنوك بمزاولة الربا، والترخيص بفتح المراقص وصالات القمار (الميسر) والخمارات وبيوت الدعارة في بعض البلدان.

2- النص على إباحـة الحـرام بإطلاق، كإباحة الردّة بالنص في الدساتير على أن (حـريــة الاعتقــاد مكفولة).

3- كما استدلوا كذلك بفعل الرسول r في قتل الرجل الذي نكح امرأة أبيه؛ فقد روي عن يزيد بن البراء عن أبيه قال: لقيت عمي ومعه راية فقلت له أين تريد؟ قال: «بعثني رسول الله r إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» (أبو داود، سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب في الرجل يزني بحريمه).

ومحل الاستشهاد عندهم أن الرسول r قتله دون أن يستفسر فدل على أن الفعل بذاته استحلال مكفر؛ فهم يرون أن إصدار القوانين من الاستحلال العملي المكفر.

الرد على الشبهة:

الصحيح أن نقول هذا خرج مخرج الفعل، والمبررات التي اعتمدوا عليها في تكفير من شرع هذه المحرمات من القوانين بحجة أنها استحلال لما حرمه الله كلام لا يستقيم، والإجابة على هذه الشبهة من عدة جهات:

1- أن إصدار تراخيص مزاولة الحرام، أو العمل بالقوانين التي تجيز بعض المحرمات يعتبر ذنبًا من الذنوب المحرمة، وصاحب الذنب لا يكفر ما لم يستحله كما قال بذلك الفقهاء، قال شارح العقيدة الطحاوية: (فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب؛ إذ كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد) (ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، (مرجع سابق)، ص323)، ومن ثم رأينا العلامة ابن خويز منداد يفرق في التعامل بين المستحل وغير المستحل فقال: (ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم) (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (مرجع سابق)، ج3، ص346).

2- إن حقيقة إصدار القوانين المخالفة للشرع هي الحكم بما حرم الله وليس استحلال ما حرم الله، والذي يحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كافرا كفرا أكبر، وقد يكون كافرا كفرا أصغر حسب الحالة التي هو فيها؛ قال ابن أبي العز: (وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا: إما مجازيا، وإما كفرا أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله:. فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور) (ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، (مرجع سابق)، ص323-324)، وقال ابن قيم: (والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطئ، له حكم المخطئين) (ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، (مرجع سابق)، ج1، ص284).

3- ومن جهة أخرى يمكننا القول أن كل هذه القوانين الوضعية ومن يعمل بها من المسلمين، لا تتوفر فيها ضابط الاعتقاد؛ لأن الذي يعملون بهذه القوانين لا يقصدون ولا يريدون تحريم ما أحله الله، ولا تحليل ما أحله الله سبحانه وتعالى؛ فتكفير الذين يعملون بالقوانين على الإطلاق أمر غير صحيح للأسباب التالية:

هذه القوانين ليست كلها تشريعا، بل أن أكثرها يخص تنظيم الحياة المدنية للناس.
لم يقل أحد ممن يعمل بهذه القوانين، أو يتحاكم إليها أنها تحل محل الشريعة.
جزء لا بأس به من مواد القانون الوضعي المعمول به في البلدان الإسلامية مأخوذ من الشريعة.
وحتى القوانين غير المأخوذة من الشريعة والمعمول بها في العالم الإسلامي ليست كلها مخالفة للإسلام، ويستثنى من القوانين المخالفة للشريعة.

4- وأما استدلالهم بفعل الرجل الذي تزوج امرأة أبيه وقولهم إن فعله استحلال بذاته، نقول: إن العلماء قالوا إنما فعل ذلك استحلالا، أي نكح امرأة أبيه معتقدا استحلال ذلك مخالفا لله ورسوله r، ومن الذين قالوا بهذا الرأي الإمام أحمد (انظر: ابن حنبل. عبد الله بن أحمد بن حنبل، مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله، تحقيق زهير الشاويش، (بيروت: المكتب الإسلامي، 1401ه-ـ 1981م)، ص351-352) والطبري (انظر: الطبري. أبو جعفر محمد بن جرير، تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار، تحقيق محمود محمد شاكر، (القاهرة: مطبعة المدني)، ج1، ص573)، والشوكاني (انظر: الشوكاني. محمد بن علي بن محمد، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1421هـ-2000م)،ج7، ص262)، كما أن الحديث فيه ذكر للراية ما يدل على أنه كان محاربا؛ حيث إن الراية إنما تعد في الحروب وبه قال الإمام الجصاص: (قيل له إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنومًا لأن الراية إنما تعد للمحاربة) (الجصاص. أبو بكر أحمد بن علي الرازي، أحكام القرآن، تحقيق محمد الصادق قمحاوي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1405هـ)، ج3، ص40)، ويرى البعض أن قتل الرسول r للرجل إنما كان حدا وليس ردة وذكر هذا الاحتمال الماوردي (انظر: الماوردي. أبو الحسن علي بن محمد، الحاوي في فقه الشافعي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1414هـ - 1994)، ج11، ص287).

ويمكن أن نقول إنما فعل الرسول r ما فعل على وجه الاختصاص بأن أُطلع على ما في قلب الرجل فأمر بقتله، فتبقى الحادثة خاصة لا يقاس عليها بدليل أن الرسول r لم يقتل كل من خالف قطعيات الشريعة.

وعليه فلا ينبغي إطلاق تكفير الاستحلال على من يصدر هذه القوانين ما دام غير جاحد للشريعة ولا معتقد بأن القانون حل محل الشريعة، كما يجب على المسئولين والعلماء السعي لتصحيح وتعديل هذه القوانين لاستكمال تطبيق الشريعة الإسلامية.
الخاتمة

وفي الختام نحسن أن نقدم أهم النتائج التي توصل إليها البحث:

1. الاستحلال نوعان؛ الأول، الاستحلال الاعتقادي، وهو الذي يذكره الفقهاء عند التعريف الشرعي للاستحلال، وهو أن يعتقد حل ما حرمه الله. والثاني الاستحلال العملي وهذا لا يعتقد فاعله حل ما حرمه الله، وقد وقع الخلاف بين العلماء في تكفير صاحبه إلا في حالة استحلال أمر مجمع عليه أو عمل عملا ظاهرًا لا يحتمل غير الكفر كرمي مصحف في القاذورات.

2. هناك علاقة وطيدة بين الاستحلال والجحود، وهناك أحكام إذا جحدها صاحبها يعد كافرًا وهو من جحد معلومًا من الدين بالضرورة، وهذا القدر متفق عليه بين العلماء كاستحلال ترك الصلاة جحودًا.

3. لا يجوز أن نحكم على فلان بأنه قد استحل ما حرم الله، وينبغي أن نقول إن استحلاله مؤد إلى الكفر ما لم تتوفر فيه ضوابط الاستحلال.

4. وضوابط الاستحلال تتلخص في العناصر التالية: أن يعتقد الشخص حِلَّ ما حرمه الله، وأن يصرح لاستحلاله للمعصية بلسانه أو بقلمه، وأن تكون المعصية المكفرة لا تحتمل غير التكفير، وأن تكون كذلك مجمعًا على تحريمها، وأن لا يكون فاعل المعصية متأولا أو جاهلا.

5. لا ينبغي الاستعجال بوصف فلان بأنه استحل ما حرم الله بمجرد كثره معاصيه؛ لأن مجرد الفعل لا يوجب التكفير ولو كان الذي يفعله عد من الكبائر.

6. ليس كل ما يصدر من أقوال ومسائل علمية من أهل البدع يعد كفرًا.

7. من الأمور التي تشتبه على الكثيرين العمل بالقوانين الوضعية، فيتهمون أن العامل بها في البلاد الإسلامية ومن يتحاكم إليها باستحلال ما حرمه الله، وهذا خطأ والأمر فيه تفصيل.



باحث بالمركز العالمي للوسطية، ألقي هذا البحث في المؤتمر العالمي لظاهرة التكفير، الذي أقيم بالمدينة المنورة في الفترة من 22 – 24 شوال 1432هـ.


الدكتور مصطفى الشيخ

???1
زائر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  عاشقة السماء الخميس أكتوبر 10, 2013 6:14 pm

أخينا سعد هداك الله لما اختلف فيه الناس من الحق

المقالات طويلة ولم أقرأ سوى مقتطفات منها، وللأهمية وليكون القارئ على بينّة، أورد هنا إشارة لمسائل هامة بينها الراسخون في العلم:
"ليس من شرط تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله أن يكون مستحلا للحكم بغير ما أنزل ولا جاحدا لوجوبه بل المناط في ذالك هو مجرد الترك ولا عبرة بالاعتقاد."
فهي مسألة حكم الله على تاركها بالكفر:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}
أما اشتراط الاستحلال فهو واجب لما هو دون ذلك، ويعنى به، أي استحلال المكفر: هو أن يستحل الشخص بعض الأمور المحرمة بالنصوص القطعية أو يستحل ما كانت حرمته معلومة من الدين بالضرورة .
مثال ذلك: استحلال الزنا واستحلال الخمر ولحم الخنزير .

وللزيد يرجى الاطلاع على:
شبهات في مسألة اشتراط الاستحلال
https://t3beer.ahlamontada.com/t3505-topic#29257

بين منهجين.. الجحود والاستحلال
https://t3beer.ahlamontada.com/t3504-topic#29255

حكم الحكام المستبدلين لشرائع الدين
https://t3beer.ahlamontada.com/t2965-topic#25562

منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين
https://t3beer.ahlamontada.com/t2964-topic

رسالة تحكيم القوانين.. محمد آل الشيخ
https://t3beer.ahlamontada.com/t2974-topic

عاشقة السماء
عاشقة السماء
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ

عدد المساهمات : 4735
تاريخ التسجيل : 08/02/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  ???1 الخميس أكتوبر 10, 2013 6:20 pm

اختي المسألة عظيمه وليست بسيطه كما تهونينها
ويجب ان لايخطو مسلم خطوة الا وهو على علم بقول العلماء السابقين والمعاصرين الراسخين بالعلم
ويقارن بين القولين ويرى اقربهما للحق واقربهما لمنهج اهل السنة والجماعه . والله من وراء القصد

???1
زائر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  عاشقة السماء الخميس أكتوبر 10, 2013 6:47 pm

ما أشرت إليه أخينا، هو كلام العلماء الراسخين في العلم، من أمِنوا الفتن وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الدين.

وللقارئ أن يمعن نظره ويقرأ بعقله وقلبه متجرداً من التبعية العمياء للشيوخ، فهو مأمور بإتباع الدليل الشرعي المعتبر، والإحاطة بالمسائل من كل جوانبها، والوقوف عند أقوال وأفعال الخلفاء الراشدين والصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
فمن رحلوا أمنوا الفتن، والمعاصرين اظلتهم الكثير من الفتن.
عاشقة السماء
عاشقة السماء
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ

عدد المساهمات : 4735
تاريخ التسجيل : 08/02/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  ???? الخميس أكتوبر 10, 2013 7:07 pm

صحيح يا اختنا
بأمكان اي أخ الان ان يأخذ فتوى ويفجر نفسه او بمسجد او مجمع او مدرسه
ويمكنه تطبيق الحاكمية على والده الذي يدخن واستحل الدخان ويقتله
ويمكنه تطبيق الحاكمية على اخوه الذي ادمن الخمر واستحلها.وبأمكانه تحكيم هذا الامر بسلب اموال الناس وووو

وكل يرى برأيه ويكثر الهرج ويقل الرجال وتكثر النساء ويخرج الدجال وتقوم الساعة

اصبتي يا اختي

????
زائر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  عاشقة السماء السبت أكتوبر 12, 2013 1:13 am


لم أفهم ما عنيت بكلامك على وجه التحديد، فإن كنت نقدت أن يكون المرء عالماً ومطلعاً على أحكام دينه بعرض كلام العلماء على القرآن والسنة بفهم الصحابة السلف الصالح، وعددته من التهور الذي يقود لما قلته، بل التبعية العمياء هي المصيبة التي أوصلت الشيعة وأهل الملل الأخرى لما هم عليه اليوم، وحيث أن كل البشر غير معصومين من الفتن، فكان التثبت هو ميناء النجاة.


وإن كنت تلمز بمنهج المجاهدين، وأنهم من يفجرون بالمدنيين، وتطعن بجهادهم، فيكفي طالب الحق هنا الاطلاع على هذا الموضوع:

براءة المجاهدين حماة العرض والدين.. وتبيان وفضح سبل المجرمين
 
https://t3beer.ahlamontada.com/t3237-topic  

[/color]
عاشقة السماء
عاشقة السماء
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ

عدد المساهمات : 4735
تاريخ التسجيل : 08/02/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ. Empty رد: كفر الاستحلال المفاهيم والضوابط ورد الشبهات 1432هـ.

مُساهمة  جعبة الأسهم الإثنين أكتوبر 28, 2013 2:54 pm


جعبة الأسهم
الفقير إلى عفو ربه

عدد المساهمات : 17019
تاريخ التسجيل : 29/01/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى