مقال~تأملات في شخصية المسيح
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
مقال~تأملات في شخصية المسيح
قد لا تكون هذه تأملات، بقدر ما هي (دعوة) عامة للتأمل في شخصية عالمية استثنائية، لم تأخذ حظها من التأمل في الخطاب الإسلامي المعاصر، ولم تستحضر كشخصية جدلية، تتقاطع الأفكار فيها، خاصة في هذا الزمن العولمي بطبعه. ومع أن هذه الشخصية المعجزة (المسيح - عليه الصلاة والسلام) شخصية إسلامية في عمقها، ومع أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد أولياها عناية ملحوظة، خاصة النص القرآني، بوصفها ظاهرة غير طبيعية، فإن تناولها في الطرح الإسلامي المعاصر لم يكن بمستوى ما لها من الحضور في النصوص المقدسة.
وإذ لا أشك في أن هذه الغفلة أو التغافل، مبعثهما جفاء أو جحود، فاني لا أجد تفسيراً لذلك إلا ما أراه من هيمنة سلوكيات بدائية في خطاباتنا التقليدية تجاه ما هو داخل - بحق أو بغير حق - في منظومة الآخر، اياً كان هذا الآخر، من تجاهل لمجمل طرحه، أو ازورار عن بعض قيم الحق عنده، أو تهميش لرموزه.. الخ. لكن هذه السلوكيات البدائية ينتظمها دافع واحد، من حيث انها - في مجملها - رد فعل على ممارسة الآخر تجاهها. ولا يخفى ان بدائية هذا السلوك انما هو في صدوره عن عاطفة مستقلة عن أي تفكير عقلاني، إذ يتم فيه رد أو تجاهل ما هو حق مشترك، مع أن السلوك النبوي كان على النقيض من ذلك، إذ احتفل صلى الله عليه وآله وسلم بيوم عاشوراء صياماً، مع احتفال اليهود به، ولنفس السبب، وقال: نحن احق بموسى منكم.وبهذا لم يكن موقفه - عليه الصلاة والسلام - رد فعل في الاتجاه المضاد، ذلك الاتجاه الذي يرد الحق لا لشيء إلا لكونه من منظومة الآخر المختلف، وانما كان فعلا في الاتجاه نفسه، ما دام هو الحق
اننا مع إيماننا بأن نبينا محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أفضل الأنبياء، ومصدر التشريع الذي أمرنا باتباعه، فإن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من قراءة العظمة في غيره، خاصة في الاختلاف النوعي، لشخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - ذلك الاختلاف الذي أكده القرآن الكريم، ونصوص السنة الصحيحة. ومما يحفز لهذه القراءة المتأملة، أنها ليست قراءة في عظمة شخصية فاعلة في منظومة الآخر فحسب، بحيث تكون رمزاً خاصاً لا يتقاطع أحد معهم فيه، وإنما هي قراءة تأمل في شخصية عظيمة، نحن - كمسلمين - أحق بها منهم.
وقبل أن أقف بشكل مباشر على الاختلاف النوعي لشخصية المسيح، متأملا هذا الاختلاف، فلابد من ذكر بعض دواعي هذا التأمل، من أسباب قد تكون في الوقت نفسه - إلى حد ما - كاشفة عن ملامح العظمة في شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - اضافة إلى كونها داعية لمزيد من القراءة لهذه الشخصية، قراءة لا يشارك فيها أهل تخصص واحد، وانما تجري في تخصصات متعددة، ليس الإسلامي بأقلها أحقية، ولعل من أهم هذه الاسباب الباعثة للتأمل:
1- الغلو في شخصية ما، بحيث يصل هذا الغلو إلى تأليه هذه الشخصية، أو الاقتراب بها من مرتبة الالوهية، داع مهم من دواعي مقاربتها وتأملها، لأن هذا الغلو على بطلانه، نابع - في أكثر الأحيان - عن أسباب موضوعية، تميزت بها هذه الشخصية، واختلفت بها عن غيرها، لان التوجه اليها بهذا الغلو من بين شخصيات متميزة، وفاعلة في نطاقها، يدل على أنها استثنائية من بين تلك الشخصيات، وقد لا تكون الأفضل، لكنها - بلا ريب - الأكثر مغايرة.
ولو اخذنا من داخل المنظومة الإسلامية مثالا على ذلك، لكن المثال الواضح في موضوعنا: شخصية أمير المؤمنين الامام علي - عليه الصلاة والسلام - وكيف التف الناس حول هذه الشخصية، مبهورين بعظمتها، إلى درجة انهم لم يستطيعوا التحكم بعاطفة الاعجاب هذه، فغلوا فيها حتى بلغوا بها درجة الالوهية. ان هذا الانبهار الغالي - على بطلانه في غلوه، وليس في انبهاره - لم يأت من فراغ، ولم تكن الشخصية نمطية، ولا ذات صفات يسهل اجتماعها في شخص واحد، وبهذا لم يكن عبثاً، ولا مصادفة إن كان علي بن أبي طالب - عليه الصلاة والسلام - من بين جميع الصحابة، بمن فيهم آل البيت - عليهم الصلاة والسلام - هو الشخصية التي انبهر بها الناس من ناحية، ومن ناحية اخرى انقسموا ازاءها فرقاً، فكانت شخصية يتمايز بها الحق من الباطل.
إذن فالمسألة لم تكن مجرد قرابة فحسب، فقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولا مجرد مصاهرة، فغيره مشارك له في هذا، ولا مجرد صحبة، فالصحبة ليست مقصورة عليه. ومع كونه - كرم الله وجهه - علماً بارزاً في كل ذلك، إلا أن كل هذا ليس سبباً كافياً لتفسير الغلو، فضلا عن تفسيره بنظريات المؤامرة، وربطها بشخصيات من صنع الخيال.
وازاء هذا الواقع - واقع كونها شخصية استثنائية مستقطبة، يصعب تفسيرها ببعد واحد - نجد المفكر الإسلامي - أياً كان انتماؤه المذهبي - مطالباً بدراسة هذه الشخصية، ومحاولة الوقوف بنا على شيء من أسرارها.
اننا مع يقيننا بـ (لا مشروعية) الغلو أياً كان موضوعه، فاننا ندعو للبحث عن دواعيه، لانه بحد ذاته مؤشر على أشياء يجب سبر أغوارها، وفهم أسرارها، ومن ثم يمكن الاستفادة منها، على نواح لا يمكن التكهن بها قبل اتمام مهمة البحث. والمشكلة المتأصلة فينا كمجتمع، وفي خطابنا الإسلامي كممارسة ثقافية، أننا عندما نؤمن ببطلان هذا الغلو أو ذاك، فاننا نعتقد في الوقت نفسه انه غلو بلا سبب، ونرمي بالسفه والجهل والحمق من قام به، وهذا يحرمنا من محاولة الفهم - لا التفهم - الذي نحن في أمس الحاجة اليه.
2- ومن الأسباب الداعية لهذا التأمل، أن استحضار الأنبياء - عليهم السلام - ممارسة قرآنية، خاصة في ما يمس القضايا التوحيدية، والقيم الأخلاقية العامة، والمبادئ الإنسانية الشاملة، وقد سطر القرآن ملحمة كل نبي مع قومه، ولم يكن هذا الحضور المكثف للانبياء - عليهم السلام - لمجرد الاعتبار فحسب، وانما ليصبحوا ميدان قراءة وتأمل وبحث، ومصدراً ثرياً لفهم حركة التاريخ والإنسان، ومن هنا فحضورهم له في المستقبل، كما له في الماضي، إذ ان كونهم حاضرون في نص خالد، يعني انهم فاعلون - على نحو ما - في مدة بقاء النص.
ومع كل هذا الحضور المكثف في النص القرآني نجد حضورهم - عليهم السلام - في الخطاب الإسلامي، ليس بمستوى الحضور في النص القرآني، فالمحاضرات والدروس والكتب التي تتناول - مثلا - حياة صحابي من كبار الصحابة، تفوق بشكل ملحوظ ما يخصص منها لدراسة - أو للوقوف عند - حياة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - وهذا من الأمور التي توحي بانغلاقية كامنة، يستحيل الوعي بها، فضلا عن الافصاح عنها، لكنها احساس كامن، يعمل في اللاشعور.
3- اشكالياتنا منذ ما يسمى بـ (فجر النهضة) أي منذ قرنين من الزمان تقريباً، انما هي اشكاليات ناتجة - بشكل أو بآخر - عن الاحتكاك بعالم مسيحي في عمقه. ومهما تعلمن هذا العالم فإن الروح المسيحي قد أسهم في تشكيله على نحو ما، حتى في مذاهبه الرافضة - صراحة - لكل ما هو مسيحي. كما أن هذا العالم المسيحي المهيمن حضارياً، هو في الوقت نفسه يدين بأكبر ديانة على الاطلاق من حيث العدد، فالكم والكيف مسيحيان في عالمنا المعاصر، وهذا ما يجعل من تأمل الشخصية الاولى، التي يلتف حولها المسيحيون في هذا العالم، ضرورة، من أجل فهم أعمق لهذا الوجدان المسيحي.
4- فهم جوانب العظمة في شخصية لها مكانتها عند الآخر، بل هي جوهر ديانته، أو عند المختلف من داخل منظومة الأنا، يعطي مساحة أكبر للحوار، لانه ينطوي على كثير من الإنصاف، الذي تفتقده معظم أنماط الحوار، سواء كان الحوار بين أبناء ديانتين، أو كان ذلك بين مذهبين من أبناء الدين الواحد، فلا شيء يباعد بين الثقافات، ويقيم الحواجز بين الامم، ويستفز الآخر المختلف، ويحمله على مركب العناد، مثل انكار ما ينطوي عليه من الحق، فلا يوجد دين ولا مذهب يمكن أن يخلو من الحق تماماً. وحين يتم رد هذا الحق الجلي، ولو كان قليلا، فانه يصعب على صاحبه تحمل ذلك، ومن ثم ينظر إلى الحوار، لا على أنه محاولة للفهم، أو بحث عن الحقيقة، وانما ينظر اليه على انه حلبة صراع، وميدان هجاء وسباب.
5- المسيح - عليه الصلاة والسلام - هو شخصية السلام الاولى، في التراث الإنساني كافة، وفي عالمنا المعاصر خاصة، والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى السلام، خاصة في ظل غياب استراتيجيات واضحة للسلام العالمي، وفي وقت يشهد العالم صراعاً محموماً، على مستويين: ظاهر وكامن، ما فتئنا نصطلي به بين وقت وآخر، منذراً في الوقت نفسه، بالكثير مما يصعب التكهن به.
ولأن الدول ذات البعد المسيحي - في عمقها الروحي الشعبوي على الأقل - هي الطرف الفاعل في هذا الصراع، فإن طرح شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - من قبل مفكرين مسلمين، واعين بأبعاد ما يطرحون، من شأنه أن يسهم في تحريك الوجدان العام المسيحي، من أجل الالتفاف حول شخصية تكون قاسماً مشتركاً، ولو في السلام العالمي على الأقل.
6- ومن مبدأ إنساني بحت، فإن التأمل في مناحي العظمة الإنسانية لشخصيات غيرت مجرى التاريخ، يعين على فهم التاريخ ذاته، في صيرورته العامة، وفي حتمياته المتساوقة - جدلياً - مع الإرادة الإنسانية، ومن جهة اخرى، فانه يعمق من ادراكنا للنفس الإنسانية - في بعدها الروحي - التي صنعت ذلك التاريخ، ويكشف عن طبيعتها، وما تنطوي عليه من جوع روحي قلق، يبعثها لارتياد عوالم الميتافيزيقيا، كما يسلط الاضواء على صراعاتها مع الغرائزي، وما هي مفطورة عليه من الأهواء، ويطلعنا على نجاحاتها واخفاقاتها في هذا المجال، وبهذا نعرف كيف ترحب الإنسانية بالمبادئ حينا، وكيف تنفر منها في أحيان اخرى، وكيف تكتشف نفسها في قائد ما، وكيف تتخلى عن هذا القائد في ظرف آخر.. الخ..
وإذ لا أشك في أن هذه الغفلة أو التغافل، مبعثهما جفاء أو جحود، فاني لا أجد تفسيراً لذلك إلا ما أراه من هيمنة سلوكيات بدائية في خطاباتنا التقليدية تجاه ما هو داخل - بحق أو بغير حق - في منظومة الآخر، اياً كان هذا الآخر، من تجاهل لمجمل طرحه، أو ازورار عن بعض قيم الحق عنده، أو تهميش لرموزه.. الخ. لكن هذه السلوكيات البدائية ينتظمها دافع واحد، من حيث انها - في مجملها - رد فعل على ممارسة الآخر تجاهها. ولا يخفى ان بدائية هذا السلوك انما هو في صدوره عن عاطفة مستقلة عن أي تفكير عقلاني، إذ يتم فيه رد أو تجاهل ما هو حق مشترك، مع أن السلوك النبوي كان على النقيض من ذلك، إذ احتفل صلى الله عليه وآله وسلم بيوم عاشوراء صياماً، مع احتفال اليهود به، ولنفس السبب، وقال: نحن احق بموسى منكم.وبهذا لم يكن موقفه - عليه الصلاة والسلام - رد فعل في الاتجاه المضاد، ذلك الاتجاه الذي يرد الحق لا لشيء إلا لكونه من منظومة الآخر المختلف، وانما كان فعلا في الاتجاه نفسه، ما دام هو الحق
اننا مع إيماننا بأن نبينا محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أفضل الأنبياء، ومصدر التشريع الذي أمرنا باتباعه، فإن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من قراءة العظمة في غيره، خاصة في الاختلاف النوعي، لشخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - ذلك الاختلاف الذي أكده القرآن الكريم، ونصوص السنة الصحيحة. ومما يحفز لهذه القراءة المتأملة، أنها ليست قراءة في عظمة شخصية فاعلة في منظومة الآخر فحسب، بحيث تكون رمزاً خاصاً لا يتقاطع أحد معهم فيه، وإنما هي قراءة تأمل في شخصية عظيمة، نحن - كمسلمين - أحق بها منهم.
وقبل أن أقف بشكل مباشر على الاختلاف النوعي لشخصية المسيح، متأملا هذا الاختلاف، فلابد من ذكر بعض دواعي هذا التأمل، من أسباب قد تكون في الوقت نفسه - إلى حد ما - كاشفة عن ملامح العظمة في شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - اضافة إلى كونها داعية لمزيد من القراءة لهذه الشخصية، قراءة لا يشارك فيها أهل تخصص واحد، وانما تجري في تخصصات متعددة، ليس الإسلامي بأقلها أحقية، ولعل من أهم هذه الاسباب الباعثة للتأمل:
1- الغلو في شخصية ما، بحيث يصل هذا الغلو إلى تأليه هذه الشخصية، أو الاقتراب بها من مرتبة الالوهية، داع مهم من دواعي مقاربتها وتأملها، لأن هذا الغلو على بطلانه، نابع - في أكثر الأحيان - عن أسباب موضوعية، تميزت بها هذه الشخصية، واختلفت بها عن غيرها، لان التوجه اليها بهذا الغلو من بين شخصيات متميزة، وفاعلة في نطاقها، يدل على أنها استثنائية من بين تلك الشخصيات، وقد لا تكون الأفضل، لكنها - بلا ريب - الأكثر مغايرة.
ولو اخذنا من داخل المنظومة الإسلامية مثالا على ذلك، لكن المثال الواضح في موضوعنا: شخصية أمير المؤمنين الامام علي - عليه الصلاة والسلام - وكيف التف الناس حول هذه الشخصية، مبهورين بعظمتها، إلى درجة انهم لم يستطيعوا التحكم بعاطفة الاعجاب هذه، فغلوا فيها حتى بلغوا بها درجة الالوهية. ان هذا الانبهار الغالي - على بطلانه في غلوه، وليس في انبهاره - لم يأت من فراغ، ولم تكن الشخصية نمطية، ولا ذات صفات يسهل اجتماعها في شخص واحد، وبهذا لم يكن عبثاً، ولا مصادفة إن كان علي بن أبي طالب - عليه الصلاة والسلام - من بين جميع الصحابة، بمن فيهم آل البيت - عليهم الصلاة والسلام - هو الشخصية التي انبهر بها الناس من ناحية، ومن ناحية اخرى انقسموا ازاءها فرقاً، فكانت شخصية يتمايز بها الحق من الباطل.
إذن فالمسألة لم تكن مجرد قرابة فحسب، فقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير، ولا مجرد مصاهرة، فغيره مشارك له في هذا، ولا مجرد صحبة، فالصحبة ليست مقصورة عليه. ومع كونه - كرم الله وجهه - علماً بارزاً في كل ذلك، إلا أن كل هذا ليس سبباً كافياً لتفسير الغلو، فضلا عن تفسيره بنظريات المؤامرة، وربطها بشخصيات من صنع الخيال.
وازاء هذا الواقع - واقع كونها شخصية استثنائية مستقطبة، يصعب تفسيرها ببعد واحد - نجد المفكر الإسلامي - أياً كان انتماؤه المذهبي - مطالباً بدراسة هذه الشخصية، ومحاولة الوقوف بنا على شيء من أسرارها.
اننا مع يقيننا بـ (لا مشروعية) الغلو أياً كان موضوعه، فاننا ندعو للبحث عن دواعيه، لانه بحد ذاته مؤشر على أشياء يجب سبر أغوارها، وفهم أسرارها، ومن ثم يمكن الاستفادة منها، على نواح لا يمكن التكهن بها قبل اتمام مهمة البحث. والمشكلة المتأصلة فينا كمجتمع، وفي خطابنا الإسلامي كممارسة ثقافية، أننا عندما نؤمن ببطلان هذا الغلو أو ذاك، فاننا نعتقد في الوقت نفسه انه غلو بلا سبب، ونرمي بالسفه والجهل والحمق من قام به، وهذا يحرمنا من محاولة الفهم - لا التفهم - الذي نحن في أمس الحاجة اليه.
2- ومن الأسباب الداعية لهذا التأمل، أن استحضار الأنبياء - عليهم السلام - ممارسة قرآنية، خاصة في ما يمس القضايا التوحيدية، والقيم الأخلاقية العامة، والمبادئ الإنسانية الشاملة، وقد سطر القرآن ملحمة كل نبي مع قومه، ولم يكن هذا الحضور المكثف للانبياء - عليهم السلام - لمجرد الاعتبار فحسب، وانما ليصبحوا ميدان قراءة وتأمل وبحث، ومصدراً ثرياً لفهم حركة التاريخ والإنسان، ومن هنا فحضورهم له في المستقبل، كما له في الماضي، إذ ان كونهم حاضرون في نص خالد، يعني انهم فاعلون - على نحو ما - في مدة بقاء النص.
ومع كل هذا الحضور المكثف في النص القرآني نجد حضورهم - عليهم السلام - في الخطاب الإسلامي، ليس بمستوى الحضور في النص القرآني، فالمحاضرات والدروس والكتب التي تتناول - مثلا - حياة صحابي من كبار الصحابة، تفوق بشكل ملحوظ ما يخصص منها لدراسة - أو للوقوف عند - حياة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - وهذا من الأمور التي توحي بانغلاقية كامنة، يستحيل الوعي بها، فضلا عن الافصاح عنها، لكنها احساس كامن، يعمل في اللاشعور.
3- اشكالياتنا منذ ما يسمى بـ (فجر النهضة) أي منذ قرنين من الزمان تقريباً، انما هي اشكاليات ناتجة - بشكل أو بآخر - عن الاحتكاك بعالم مسيحي في عمقه. ومهما تعلمن هذا العالم فإن الروح المسيحي قد أسهم في تشكيله على نحو ما، حتى في مذاهبه الرافضة - صراحة - لكل ما هو مسيحي. كما أن هذا العالم المسيحي المهيمن حضارياً، هو في الوقت نفسه يدين بأكبر ديانة على الاطلاق من حيث العدد، فالكم والكيف مسيحيان في عالمنا المعاصر، وهذا ما يجعل من تأمل الشخصية الاولى، التي يلتف حولها المسيحيون في هذا العالم، ضرورة، من أجل فهم أعمق لهذا الوجدان المسيحي.
4- فهم جوانب العظمة في شخصية لها مكانتها عند الآخر، بل هي جوهر ديانته، أو عند المختلف من داخل منظومة الأنا، يعطي مساحة أكبر للحوار، لانه ينطوي على كثير من الإنصاف، الذي تفتقده معظم أنماط الحوار، سواء كان الحوار بين أبناء ديانتين، أو كان ذلك بين مذهبين من أبناء الدين الواحد، فلا شيء يباعد بين الثقافات، ويقيم الحواجز بين الامم، ويستفز الآخر المختلف، ويحمله على مركب العناد، مثل انكار ما ينطوي عليه من الحق، فلا يوجد دين ولا مذهب يمكن أن يخلو من الحق تماماً. وحين يتم رد هذا الحق الجلي، ولو كان قليلا، فانه يصعب على صاحبه تحمل ذلك، ومن ثم ينظر إلى الحوار، لا على أنه محاولة للفهم، أو بحث عن الحقيقة، وانما ينظر اليه على انه حلبة صراع، وميدان هجاء وسباب.
5- المسيح - عليه الصلاة والسلام - هو شخصية السلام الاولى، في التراث الإنساني كافة، وفي عالمنا المعاصر خاصة، والعالم اليوم أحوج ما يكون إلى السلام، خاصة في ظل غياب استراتيجيات واضحة للسلام العالمي، وفي وقت يشهد العالم صراعاً محموماً، على مستويين: ظاهر وكامن، ما فتئنا نصطلي به بين وقت وآخر، منذراً في الوقت نفسه، بالكثير مما يصعب التكهن به.
ولأن الدول ذات البعد المسيحي - في عمقها الروحي الشعبوي على الأقل - هي الطرف الفاعل في هذا الصراع، فإن طرح شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - من قبل مفكرين مسلمين، واعين بأبعاد ما يطرحون، من شأنه أن يسهم في تحريك الوجدان العام المسيحي، من أجل الالتفاف حول شخصية تكون قاسماً مشتركاً، ولو في السلام العالمي على الأقل.
6- ومن مبدأ إنساني بحت، فإن التأمل في مناحي العظمة الإنسانية لشخصيات غيرت مجرى التاريخ، يعين على فهم التاريخ ذاته، في صيرورته العامة، وفي حتمياته المتساوقة - جدلياً - مع الإرادة الإنسانية، ومن جهة اخرى، فانه يعمق من ادراكنا للنفس الإنسانية - في بعدها الروحي - التي صنعت ذلك التاريخ، ويكشف عن طبيعتها، وما تنطوي عليه من جوع روحي قلق، يبعثها لارتياد عوالم الميتافيزيقيا، كما يسلط الاضواء على صراعاتها مع الغرائزي، وما هي مفطورة عليه من الأهواء، ويطلعنا على نجاحاتها واخفاقاتها في هذا المجال، وبهذا نعرف كيف ترحب الإنسانية بالمبادئ حينا، وكيف تنفر منها في أحيان اخرى، وكيف تكتشف نفسها في قائد ما، وكيف تتخلى عن هذا القائد في ظرف آخر.. الخ..
الحالم- موقوووووووف
- عدد المساهمات : 1116
تاريخ التسجيل : 27/01/2014
رد: مقال~تأملات في شخصية المسيح
عندما نتأمل شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - كما هي في القرآن الكريم والسنة النبوية، ونتأمل الانطباع الذي تركته هذه الشخصية في معاصريها أو من بعدهم، سواء كان ذلك الأثر في موافقيها أو مخالفيها، فإننا سنجدها شخصية مغايرة، مؤثرة بمغايرتها، وذات طابع خاص، كان محور جدل واسع في القديم والحديث. وهذا ما يستدعي التوقف عندها، لفهمها ابتداء، ومن ثم فهم الأثر الذي تركته في وجدان الملايين - ومن ثم في بنائهم الاجتماعي - ممن اتبعها أو تماس معها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لفهم العقل الذي تعامل مع هذه المغايرة، وهل استطاع هذا العقل تفسيرها بوصفها اختلافاً أتى على غير مثال، يحتاج تفسيره لمنطق يتسع لهذا الاختلاف؟، أم أخضعها لمنطقه الخاص، فوقع في تناقضات، حاول جاهداً أن يمنطقها، لكنها بقيت إشكالات تتحدى منطق العقل كما كانت؟
ولقد لفت انتباهي، وأثار اهتمامي، وأنا أتأمل شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - وأتلمس أثرها في أتباعه - على تباينهم في نظرتهم إليه - عدة أمور، كان من أهمها مايلي:
1- الاختلاف النوعي للمسيح - عليه الصلاة والسلام - في طبيعته الإنسانية، فمع بشريته إلا أن وجوده بحد ذاته كان وجوداً معجزاً. وإذا كان كل نبي من الأنبياء - عليهم السلام - يأتي قومه بالمعجزات الباهرة، رجاء أن يصدقوه، فإن المسيح - عليه الصلاة والسلام - كان بذاته معجزة، يتمايز - على الرغم من بشريته - عن البشر، في وجوده وفي نهايته.
إن وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - كان وجودا غير مسبوق، من حيث كونه ولد لغير أب، وبهذا فهو وجود مبهر، يخترق قانون الوجود البشري، فيبرك العقول، ولهذا كان إثبات هذه المعجزة يحتاج إلى معجزة أخرى، فكان كلامه في المهد اختراقاً آخر، عاينه معاصروه. أما من لم يعاصر ذلك الحدث فاحتاج إلى استدلال آخر، استدلال يحيل العقل البشري إلى ما هو متحقق عنده في أصل الوجود البشري، قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالإحالة على أصل الوجود البشري الذي لم يكن أحد (في المجتمع اليهودي خاصة) يماري فيه. ومع أن هذا الأصل (آدم - عليه السلام) معجزة أكبر في طبيعتها، وأشد تحدياً للعقل البشري، إلا أنها لم تخضع للمعاينة البشرية كما خضعت معجزة وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - لمعاينة معاصريه. والذين حاجهم الله - عز وجل - بهذه الآية موقنون بمعجزة آدم - عليه السلام - إلا أنهم - كما هي طبيعة الإدراك البشري - يسهل عليهم الإيمان بالمعجزة الغائبة، والغائرة في أعمق أعماق الزمن مهما عظمت، ولكنهم يضطربون إزاء المعجزات الباهرة التي تقع بين أيديهم. لهذا فإن شرائح كثيرة من أتباع المسيحية في القرون الميلادية الأولى مع إيمانها ببشرية آدم - عليه السلام - لم تستطع أن تستوعب بشرية المسيح - عليه الصلاة والسلام - ذلك أن وجود الأول لم تعاينه البشرية، إذ لم توجد بعد، أما الثاني فكان وجوده المعجز مشهوداً، ومن ثم أمكن للعقول المتدينة بدين سماوي أن تتجاوز معجزة وجود الأول بلا إشكال، بينما لم تستطع كثير من شرائحها - رغم تدينها - أن تتجاوز معجزة وجود الثاني، ومن هنا وقفت حائرة مشدوهة أمام أكبر حدث في التاريخ يمس الوجود البشري.
وإذا كان وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - حدثاً بهذه الضخامة من حيث نوعية الإعجاز، فإن نهايته كانت ذات طابع إعجازي، حيرت عقول معاصريه، فاختلفوا فيه، وشبه لهم. وكما أتى إلى هذه الحياة بمعجزة، سيغادرها بمعجزة استثنائية لا مثيل لها في التاريخ البشري كافة، حيث يرفعه الله إليه، بعد أن حيكت له المؤامرات، وبدأ العدو تنفيذها، وهذه النهاية لم تعهد من قبل، ولا تطلع إليها بشر. وبهذا يحار الناس في ظل غياب الجسد، ويعون صعوبة البت في الأمر في مثل هذه الحال، فحتى الذين يزعمون قتله من اليهود ومن حالفم أو تحالفوا معه، غير متأكدين من قتله، قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} فالجسد البشري الوحيد الذي لا يوجد على ظهر هذه الأرض - بحيث يمكن معاينته - هو جسد المسيح - عليه الصلاة والسلام.
وبين البداية والنهاية تأتي المعجزات التي ظهرت على يد المسيح - عليه الصلاة والسلام كأعظم ما تكون المعجزات، معجزات استثنائية أيضا، فيها شيء مما يختص الله به، كالخلق والإحياء، وكل ذلك بإذن الله.
لقد كان كثير من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يواجهون بهذا التحدي: فاتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، لم يكن الله - عز وجل - يمنح أحداً من أنبيائه حق إحياء الموتى، بل يضرب لهم الأمثال على الإحياء، مما هو من خارج الجنس البشري، إلا ما كان من أمر عيسى - عليه الصلاة والسلام - إذ منحه الله - عز وجل - ذلك بأن أجرى على يديه إحياء الموتى، بل أعظم من ذلك، إيجاد الحياة من الجماد (عملية خلق) عندما يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، إنها معجزات لم تجر على يد نبي من قبل ولا من بعد، قال تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وإذ تبرئ الأكمه والأبرص وإذ تخرج الموتى بإذني}.
هذه المعجزات لم يكن العقل البشري - وهو يعاينها مدركا أنها لم تحدث من قبل، على كثرة معجزات أنبياء بني إسرائيل - قادراً على استيعابها، فالذي تجري على يديه هذه المعجزات مازال وجوده صدمة لهذا العقل، بحيث يستريب في بشريته، ونوعية المعجزات (خلقا وإحياء) تذهل هذا العقل، والنهاية مذهلة أيضاً، إذ هي بصورة لم تحدث من قبل ولن تحدث من بعد. وإذ لم يستطع العقل استيعاب ذلك، فقد هرب إلى ما يظنه حلا لهذا الإشكال الذي يواجهه، فظن أنه بتأليه المسيح يحل الإشكال، ولم يع أنه يضع الإشكال في دائرة الاستحالة، مما يعني تشظي الإشكاليات بأبعاد تناقضية، فلا يستطيع العقل هضمها، وإنما يعمد الى الهروب منها، متى ما سنحت له فرصة، وهذا ما حدث، على طول مسيرة العقل المسيحي، وفي مرحلته الأخيرة خصوصا.
وقد ثبت في السنة النبوية أن المسيح - عليه الصلاة والسلام - يعود في آخر الزمان، نازلا من السماء، فيقتل الدجال، ويحكم بشريعة الإسلام. ولاشك أن انفراد المسيح - عليه الصلاة والسلام - من بين الأنبياء، بهذه العودة، واضطلاعه بهذه المهمة، له دلالات كثيرة، ربما لبعضها ارتباط باختلاف المسيح من حيث طبيعة وجوده ونهايته. هذه الطبيعة التي من أجلها ظن أنه ليس في السياق البشري، ولذ يقول الله - عز وجل -: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقربون} والمراد أن الملائكة المقربين والمسيح على علو مكانتهم لا يتكبرون عن عبادة الله، فالمسيح هنا في سياق ملائكي، لم يدخل أحد من البشر معه في هذا السياق، فكأن بقية البشر لا يوجد فيهم اصلاً ما يدعو لأن يغتر بهم فتظن فيهم الألوهية، أما الملائكة المقربون والمسيح فقد منحهم الله من الخصائص ما قد يكون موطن اغترار.
بهذا نجد المسيح - عليه الصلاة والسلام - مع كونه كغيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عبداً لله، إلا أنه اختلف عنهم من حيث الوجود والمعجزات، والنهاية، والعودة، وهذا ما جعل تأليهه يصبح الطابع العام للديانة الكبرى في العالم، ولهذا فالمساءلة عن هذا التأليه تطال المسيح نفسه، قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وذلك أن دعوى الألوهية لغير الله من البشر يمكن أن تفهم في ظل انحراف كلي، كما في الوثنيات المؤلهة للبشر، أما في دين سماوي فلا. ولذا فاكتساح التأليه البشري لهذا الدين السماوي، قد يدعو إلى أن يظن من ضل في ذلك، أنه بأمر أو برضى نبي هذه الديانة، فجاءت هذه المساءلة لنبي هذه الديانة، لأجل أن يكون الجواب بلسانه، فلا عذر بعد ذلك لمعتذر.
2- نلاحظ في شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - أنها ذات بعد نسوي، فالأنثى هي حلقة الربط الوحيدة التي تربطه بالجنس البشري، كما أنه النبي الوحيد الذي تحضر أمه (مريم عليها الصلاة والسلام) بشكل جوهري في ديانته، سواء كان ذلك عند عرضها في القرآن الكريم، أو في التصور الكنسي للديانة المسيحية. وليس هذا عائداً الى انعدام الأب فحسب، فالوالدان ليس لهما مثل هذا الحضور، ولا ما هو قريب منه، في مسيرة الأنبياء - عليهم السلام - بحيث يقال عنه: إنه حضور أنثوي يعوض عن غياب ذكوري، بل يترجح عندي أنه حضور عائد الى ارتباط خاص بالأنثى، من حيث موقعها ووجودها الحضاري، كرد عملي على الممارسة اليهودية المتحيزة ضد الأنثى، والتي أتى المسيح مصححا لانحرافاتها كافة، وبهذا فالحضور الأنثوي في المسيحية يحتاج لقراءة تأولية مستبطنة، إذ حظيت المرأة بما لم تحظ به من قبل ولا من بعد، بسبب موقع مريم - عليها الصلاة والسلام - في شخصية المسيح. وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض أهل العلم من المسلمين قال بنبوتها، مجيزا بها نبوة المرأة، وما سبق ذلك من الغلو المسيحي الضال فيها، والذي بلغ بها الألوهية، فهي مكانة استثنائية بلا مراء.
وإذا أضفنا - أيضا - أن البعد الأنثوي يمتد لأبعد من مريم - عليها للسلام - في أمها (امرأة عمران) استطعنا أن نفهم كيف أن الوعي بقيمة الأنثى ظل - على الرغم من مظاهر البؤس الأنثوي السطحي - مسيحيا في عمقه، ولا تغرنا الإشارات الفارغة في بعض خطاباتنا المؤدلجة، التي تشير الى اضطهاد المرأة في العصور المسيحية. هذه الإشارات يستحضرها وعي مهزوم، حدد هدفه منذ البداية، فهو يقرأ ما يريد لا ما هو واقع فعلاً، ولو أنه تأمل وضع المرأة في الجيوش الصليبية - مع العلم أنها ليست فترة استنارة - لأصيب بالإحباط، ولعل شهادة أسامة بن منقذ - وهو معاصر لتلك الجيوش، وأحد من كتب عنها - تكفي لمن يبحث عن الحق.
3- وهناك بُعد آخر، أراه أحد نتائج البعد السابق، في بعض ملامحه، وهو بعد الرحمة والتسامح، فقد اتسمت شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - بالرحمة، والتسامح، حتى امتد أثرها إلى أتباعه، قال تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها} ويمكن ملاحظة هذا الأمر عند مقارنتهم بقوم موسى - عليه الصلاة والسلام - الذين قال الله فيهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} ولهذا كان التشريع لليهود كما أشار لذلك الشهرستاني - صارما، فكانت النفس بالنفس والعين بالعين.. بينما أوصى المسيح من ضُرب على خده الأيمن أن يدير خده الأيسر، ويرى الشهر ستاني أن الإسلام كان وسطا بين ذلك، فكان جامعا لحسنات الحزم، كما في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولكنه مع ذلك لم يغفل جانب الرحمة، كما في قوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} فكان بهذا قانونا متكاملا. ولهذا وجدنا الذين في قلوبهم رأفة ورحمة (النصارى) أقرب الناس مودة للذين آمنوا ووجدنا الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة (اليهود) أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
وإنني إذ أربط بين البعد النسوي وبين الرحمة وشيوع روح السلام في المسيحية، فإنني لا أتكلف رابطاً لا وجود له، بل أرى أن تطعيم المفاصل الحيوية للسلطات ومراكز اتخاذ القرار - على كافة مستوياتها - في العالم أجمع، من شأنه أن يخفف من حدة الصراع العالمي، وربما يؤدي هذا الحضور الأنثوي إلى صناعة عالم أفضل، فتنجح المرأة فيما فشل فيه الرجل - بسبب انفراده في تشكيل العالم وفق روح ذكورية خالصة - على مدى قرون طويلة كان العراك الذكوري هو طابعها. ولعل المتأمل للتصرف الأنثوي لملكة سبأ في قصتها مع سليمان - عليه السلام - كما عرضها القرآن الكريم، يرى إيجابيات الحضور الأنثوي في أعلى مستوى، تلك الإيجابيات التي تُغفل أو يتم تجاوزها عن عمد. ونستطيع أن نقرأ هذه القصة القرآنية قراءة مثمرة، لو تأملنا كيف كان حاشيتها دعاة حرب، وكانت - وحدها - داعية سلام، وكيف كان رأيها - وهي امرأة واحدة في مقابل عدد من الرجال - هو الرأي الذي تكشف الواقع عن صوابه، فأفلحت تلك المرأة، وأفلح قومها بسببها!.
وإذا كان هناك من يرى أن الأمم المسيحية كانت ومازالت دموية في مجملها، وأنها لم تظهر على هذه الصورة التي سبق عرضها، من حيث شيوع الرحمة فيها والتسامح، فإن هذا العنف الذي اتسمت به، إنما كان طابعها بعدما تبناها الكيان السياسي الروماني، وطبعها بطابعه الخاص، وبهذا قدمت المسيحية روحها تضحية (وأهم معالم هذه الروح التي تمت التضحية بها: الوحدانية، واللاعنف) كي تظفر بأكبر إمبراطورية في العالم القديم.
4- عندما بشرت الملائكة مريم - عليها السلام - بالمسيح كانت البشرى بصفات واعدة، قال تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمح المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} هذه الوجاهة التي قررها الله - عز وجل للمسيح في الدارين، وهذا التقريب دليل تميز كرم الله به المسيح، وإذا كان ما يخص الدار الآخرة من أمور الغيب التي تصعب مقاربتها، فإن الوجاهة في الدنيا واقع مشاهد، يؤكد هذا الوعد الإلهي.
لقد كنت أحرص عندما أزور بلداً ما أن أدخل معابدها، وأكشف عن الغائر من ثقافتها المتعينة في تماثيلها وصورها وأفلامها، بل وفي ممارستها لحياتها اليومية، لأن في ذلك يكمن سرها، ولقد لفت انتباهي في البلاد المسيحية أن شخصية المسيح - رغم خفوت روح التدين المسيحي - حاضرة بقوة، تجابهك تماثيل العذراء وابنها - عليهما السلام - أنى توجهت، حتى في بعض غرف الاستقبال في البيوت، وفي بعض غرف النوم، فضلاً عن الكنائس كما أن الواقع التاريخي للشعوب المسيحية - على اتساعها زمانياً ومكانياً - يحكي أنها كانت تربي أبناءها على الصلاة للمسيح قبل النوم، وهذا يدل على مستوى من الحضور لشخصية المسيح في الوجدان العام لتلك الشعوب، حتى أصبح احترامه وتقديره سلوكاً عاماً، يمارسه المؤمن، كما يمارسه من خرج عن دائرة الإيمان المسيحي، فالجميع مجمعون على محبته وتعظيمه. وإذا كان هذا التعظيم - الذي أرى أنه من الوجاهة التي وعد الله بها المسيح - تعظيماً غير مشروع، لبلوغه درجة التأليه، فإني أرى أن عدم مشروعيته لا تنفي الواقع العيني للوجاهة. ولو أن المقصود بالوجاهة في الدنيا، التقدير الذي حظي به المسيح عند من اتبعه على الحق، لم تكن وجاهة تستدعي الإشادة، إذ هي في هذه الحال (التقدير على الوجه الصحيح فحسب) وجاهة تفوقها وجاهة كثير من العلماء والملوك والمبدعين والفنانين. ولهذا فإن ما حظي به المسيح من تعظيم - أيا كان هذا التعظيم - تصديق لما وعده به الله - عز وجل.
وقد وعد الله - عز و جل - المسيح وعداً آخر، كرّمه به، وذلك بأن يجعل الغلبة لمن اتبعه على الكافرين به، قال تعالى للمسيح - عليه الصلاة والسلام -: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} وإذا أضفنا إلى ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: تقوم الساعة والروم أكثر الناس. عرفنا أن العالم المسيحي سيبقى ذا نفوذ، مع ما قد يصيبه من تراجع نسبي، يعتريه بين الحين والآخر، لكنه لن يغيب عن المسرح الدولي غياباً كلياً. وإزاء هذه الحقيقة يجب أن يكون تعاملنا مع الآخر واعيا البعد المستقبلي المرتبط بهذا الآخر ضرورة، ولا نهمل شيئا كثر أو قل من شروط المستقبل القريب، ولا ما هو ضروري للمستقبل البعيد، فالعالم المسيحي حاضر، وسيبقى حاضراً، نتعامل مع هذه الحقيقة وإلا كنا - بجهلنا - جناة على أجيالنا، ومعرة في تاريخ أمتنا.
ولقد لفت انتباهي، وأثار اهتمامي، وأنا أتأمل شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - وأتلمس أثرها في أتباعه - على تباينهم في نظرتهم إليه - عدة أمور، كان من أهمها مايلي:
1- الاختلاف النوعي للمسيح - عليه الصلاة والسلام - في طبيعته الإنسانية، فمع بشريته إلا أن وجوده بحد ذاته كان وجوداً معجزاً. وإذا كان كل نبي من الأنبياء - عليهم السلام - يأتي قومه بالمعجزات الباهرة، رجاء أن يصدقوه، فإن المسيح - عليه الصلاة والسلام - كان بذاته معجزة، يتمايز - على الرغم من بشريته - عن البشر، في وجوده وفي نهايته.
إن وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - كان وجودا غير مسبوق، من حيث كونه ولد لغير أب، وبهذا فهو وجود مبهر، يخترق قانون الوجود البشري، فيبرك العقول، ولهذا كان إثبات هذه المعجزة يحتاج إلى معجزة أخرى، فكان كلامه في المهد اختراقاً آخر، عاينه معاصروه. أما من لم يعاصر ذلك الحدث فاحتاج إلى استدلال آخر، استدلال يحيل العقل البشري إلى ما هو متحقق عنده في أصل الوجود البشري، قال الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالإحالة على أصل الوجود البشري الذي لم يكن أحد (في المجتمع اليهودي خاصة) يماري فيه. ومع أن هذا الأصل (آدم - عليه السلام) معجزة أكبر في طبيعتها، وأشد تحدياً للعقل البشري، إلا أنها لم تخضع للمعاينة البشرية كما خضعت معجزة وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - لمعاينة معاصريه. والذين حاجهم الله - عز وجل - بهذه الآية موقنون بمعجزة آدم - عليه السلام - إلا أنهم - كما هي طبيعة الإدراك البشري - يسهل عليهم الإيمان بالمعجزة الغائبة، والغائرة في أعمق أعماق الزمن مهما عظمت، ولكنهم يضطربون إزاء المعجزات الباهرة التي تقع بين أيديهم. لهذا فإن شرائح كثيرة من أتباع المسيحية في القرون الميلادية الأولى مع إيمانها ببشرية آدم - عليه السلام - لم تستطع أن تستوعب بشرية المسيح - عليه الصلاة والسلام - ذلك أن وجود الأول لم تعاينه البشرية، إذ لم توجد بعد، أما الثاني فكان وجوده المعجز مشهوداً، ومن ثم أمكن للعقول المتدينة بدين سماوي أن تتجاوز معجزة وجود الأول بلا إشكال، بينما لم تستطع كثير من شرائحها - رغم تدينها - أن تتجاوز معجزة وجود الثاني، ومن هنا وقفت حائرة مشدوهة أمام أكبر حدث في التاريخ يمس الوجود البشري.
وإذا كان وجود المسيح - عليه الصلاة والسلام - حدثاً بهذه الضخامة من حيث نوعية الإعجاز، فإن نهايته كانت ذات طابع إعجازي، حيرت عقول معاصريه، فاختلفوا فيه، وشبه لهم. وكما أتى إلى هذه الحياة بمعجزة، سيغادرها بمعجزة استثنائية لا مثيل لها في التاريخ البشري كافة، حيث يرفعه الله إليه، بعد أن حيكت له المؤامرات، وبدأ العدو تنفيذها، وهذه النهاية لم تعهد من قبل، ولا تطلع إليها بشر. وبهذا يحار الناس في ظل غياب الجسد، ويعون صعوبة البت في الأمر في مثل هذه الحال، فحتى الذين يزعمون قتله من اليهود ومن حالفم أو تحالفوا معه، غير متأكدين من قتله، قال تعالى: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} فالجسد البشري الوحيد الذي لا يوجد على ظهر هذه الأرض - بحيث يمكن معاينته - هو جسد المسيح - عليه الصلاة والسلام.
وبين البداية والنهاية تأتي المعجزات التي ظهرت على يد المسيح - عليه الصلاة والسلام كأعظم ما تكون المعجزات، معجزات استثنائية أيضا، فيها شيء مما يختص الله به، كالخلق والإحياء، وكل ذلك بإذن الله.
لقد كان كثير من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يواجهون بهذا التحدي: فاتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، لم يكن الله - عز وجل - يمنح أحداً من أنبيائه حق إحياء الموتى، بل يضرب لهم الأمثال على الإحياء، مما هو من خارج الجنس البشري، إلا ما كان من أمر عيسى - عليه الصلاة والسلام - إذ منحه الله - عز وجل - ذلك بأن أجرى على يديه إحياء الموتى، بل أعظم من ذلك، إيجاد الحياة من الجماد (عملية خلق) عندما يصنع من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، إنها معجزات لم تجر على يد نبي من قبل ولا من بعد، قال تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وإذ تبرئ الأكمه والأبرص وإذ تخرج الموتى بإذني}.
هذه المعجزات لم يكن العقل البشري - وهو يعاينها مدركا أنها لم تحدث من قبل، على كثرة معجزات أنبياء بني إسرائيل - قادراً على استيعابها، فالذي تجري على يديه هذه المعجزات مازال وجوده صدمة لهذا العقل، بحيث يستريب في بشريته، ونوعية المعجزات (خلقا وإحياء) تذهل هذا العقل، والنهاية مذهلة أيضاً، إذ هي بصورة لم تحدث من قبل ولن تحدث من بعد. وإذ لم يستطع العقل استيعاب ذلك، فقد هرب إلى ما يظنه حلا لهذا الإشكال الذي يواجهه، فظن أنه بتأليه المسيح يحل الإشكال، ولم يع أنه يضع الإشكال في دائرة الاستحالة، مما يعني تشظي الإشكاليات بأبعاد تناقضية، فلا يستطيع العقل هضمها، وإنما يعمد الى الهروب منها، متى ما سنحت له فرصة، وهذا ما حدث، على طول مسيرة العقل المسيحي، وفي مرحلته الأخيرة خصوصا.
وقد ثبت في السنة النبوية أن المسيح - عليه الصلاة والسلام - يعود في آخر الزمان، نازلا من السماء، فيقتل الدجال، ويحكم بشريعة الإسلام. ولاشك أن انفراد المسيح - عليه الصلاة والسلام - من بين الأنبياء، بهذه العودة، واضطلاعه بهذه المهمة، له دلالات كثيرة، ربما لبعضها ارتباط باختلاف المسيح من حيث طبيعة وجوده ونهايته. هذه الطبيعة التي من أجلها ظن أنه ليس في السياق البشري، ولذ يقول الله - عز وجل -: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدالله ولا الملائكة المقربون} والمراد أن الملائكة المقربين والمسيح على علو مكانتهم لا يتكبرون عن عبادة الله، فالمسيح هنا في سياق ملائكي، لم يدخل أحد من البشر معه في هذا السياق، فكأن بقية البشر لا يوجد فيهم اصلاً ما يدعو لأن يغتر بهم فتظن فيهم الألوهية، أما الملائكة المقربون والمسيح فقد منحهم الله من الخصائص ما قد يكون موطن اغترار.
بهذا نجد المسيح - عليه الصلاة والسلام - مع كونه كغيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عبداً لله، إلا أنه اختلف عنهم من حيث الوجود والمعجزات، والنهاية، والعودة، وهذا ما جعل تأليهه يصبح الطابع العام للديانة الكبرى في العالم، ولهذا فالمساءلة عن هذا التأليه تطال المسيح نفسه، قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وذلك أن دعوى الألوهية لغير الله من البشر يمكن أن تفهم في ظل انحراف كلي، كما في الوثنيات المؤلهة للبشر، أما في دين سماوي فلا. ولذا فاكتساح التأليه البشري لهذا الدين السماوي، قد يدعو إلى أن يظن من ضل في ذلك، أنه بأمر أو برضى نبي هذه الديانة، فجاءت هذه المساءلة لنبي هذه الديانة، لأجل أن يكون الجواب بلسانه، فلا عذر بعد ذلك لمعتذر.
2- نلاحظ في شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - أنها ذات بعد نسوي، فالأنثى هي حلقة الربط الوحيدة التي تربطه بالجنس البشري، كما أنه النبي الوحيد الذي تحضر أمه (مريم عليها الصلاة والسلام) بشكل جوهري في ديانته، سواء كان ذلك عند عرضها في القرآن الكريم، أو في التصور الكنسي للديانة المسيحية. وليس هذا عائداً الى انعدام الأب فحسب، فالوالدان ليس لهما مثل هذا الحضور، ولا ما هو قريب منه، في مسيرة الأنبياء - عليهم السلام - بحيث يقال عنه: إنه حضور أنثوي يعوض عن غياب ذكوري، بل يترجح عندي أنه حضور عائد الى ارتباط خاص بالأنثى، من حيث موقعها ووجودها الحضاري، كرد عملي على الممارسة اليهودية المتحيزة ضد الأنثى، والتي أتى المسيح مصححا لانحرافاتها كافة، وبهذا فالحضور الأنثوي في المسيحية يحتاج لقراءة تأولية مستبطنة، إذ حظيت المرأة بما لم تحظ به من قبل ولا من بعد، بسبب موقع مريم - عليها الصلاة والسلام - في شخصية المسيح. وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض أهل العلم من المسلمين قال بنبوتها، مجيزا بها نبوة المرأة، وما سبق ذلك من الغلو المسيحي الضال فيها، والذي بلغ بها الألوهية، فهي مكانة استثنائية بلا مراء.
وإذا أضفنا - أيضا - أن البعد الأنثوي يمتد لأبعد من مريم - عليها للسلام - في أمها (امرأة عمران) استطعنا أن نفهم كيف أن الوعي بقيمة الأنثى ظل - على الرغم من مظاهر البؤس الأنثوي السطحي - مسيحيا في عمقه، ولا تغرنا الإشارات الفارغة في بعض خطاباتنا المؤدلجة، التي تشير الى اضطهاد المرأة في العصور المسيحية. هذه الإشارات يستحضرها وعي مهزوم، حدد هدفه منذ البداية، فهو يقرأ ما يريد لا ما هو واقع فعلاً، ولو أنه تأمل وضع المرأة في الجيوش الصليبية - مع العلم أنها ليست فترة استنارة - لأصيب بالإحباط، ولعل شهادة أسامة بن منقذ - وهو معاصر لتلك الجيوش، وأحد من كتب عنها - تكفي لمن يبحث عن الحق.
3- وهناك بُعد آخر، أراه أحد نتائج البعد السابق، في بعض ملامحه، وهو بعد الرحمة والتسامح، فقد اتسمت شخصية المسيح - عليه الصلاة والسلام - بالرحمة، والتسامح، حتى امتد أثرها إلى أتباعه، قال تعالى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها} ويمكن ملاحظة هذا الأمر عند مقارنتهم بقوم موسى - عليه الصلاة والسلام - الذين قال الله فيهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} ولهذا كان التشريع لليهود كما أشار لذلك الشهرستاني - صارما، فكانت النفس بالنفس والعين بالعين.. بينما أوصى المسيح من ضُرب على خده الأيمن أن يدير خده الأيسر، ويرى الشهر ستاني أن الإسلام كان وسطا بين ذلك، فكان جامعا لحسنات الحزم، كما في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولكنه مع ذلك لم يغفل جانب الرحمة، كما في قوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} فكان بهذا قانونا متكاملا. ولهذا وجدنا الذين في قلوبهم رأفة ورحمة (النصارى) أقرب الناس مودة للذين آمنوا ووجدنا الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة (اليهود) أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
وإنني إذ أربط بين البعد النسوي وبين الرحمة وشيوع روح السلام في المسيحية، فإنني لا أتكلف رابطاً لا وجود له، بل أرى أن تطعيم المفاصل الحيوية للسلطات ومراكز اتخاذ القرار - على كافة مستوياتها - في العالم أجمع، من شأنه أن يخفف من حدة الصراع العالمي، وربما يؤدي هذا الحضور الأنثوي إلى صناعة عالم أفضل، فتنجح المرأة فيما فشل فيه الرجل - بسبب انفراده في تشكيل العالم وفق روح ذكورية خالصة - على مدى قرون طويلة كان العراك الذكوري هو طابعها. ولعل المتأمل للتصرف الأنثوي لملكة سبأ في قصتها مع سليمان - عليه السلام - كما عرضها القرآن الكريم، يرى إيجابيات الحضور الأنثوي في أعلى مستوى، تلك الإيجابيات التي تُغفل أو يتم تجاوزها عن عمد. ونستطيع أن نقرأ هذه القصة القرآنية قراءة مثمرة، لو تأملنا كيف كان حاشيتها دعاة حرب، وكانت - وحدها - داعية سلام، وكيف كان رأيها - وهي امرأة واحدة في مقابل عدد من الرجال - هو الرأي الذي تكشف الواقع عن صوابه، فأفلحت تلك المرأة، وأفلح قومها بسببها!.
وإذا كان هناك من يرى أن الأمم المسيحية كانت ومازالت دموية في مجملها، وأنها لم تظهر على هذه الصورة التي سبق عرضها، من حيث شيوع الرحمة فيها والتسامح، فإن هذا العنف الذي اتسمت به، إنما كان طابعها بعدما تبناها الكيان السياسي الروماني، وطبعها بطابعه الخاص، وبهذا قدمت المسيحية روحها تضحية (وأهم معالم هذه الروح التي تمت التضحية بها: الوحدانية، واللاعنف) كي تظفر بأكبر إمبراطورية في العالم القديم.
4- عندما بشرت الملائكة مريم - عليها السلام - بالمسيح كانت البشرى بصفات واعدة، قال تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمح المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} هذه الوجاهة التي قررها الله - عز وجل للمسيح في الدارين، وهذا التقريب دليل تميز كرم الله به المسيح، وإذا كان ما يخص الدار الآخرة من أمور الغيب التي تصعب مقاربتها، فإن الوجاهة في الدنيا واقع مشاهد، يؤكد هذا الوعد الإلهي.
لقد كنت أحرص عندما أزور بلداً ما أن أدخل معابدها، وأكشف عن الغائر من ثقافتها المتعينة في تماثيلها وصورها وأفلامها، بل وفي ممارستها لحياتها اليومية، لأن في ذلك يكمن سرها، ولقد لفت انتباهي في البلاد المسيحية أن شخصية المسيح - رغم خفوت روح التدين المسيحي - حاضرة بقوة، تجابهك تماثيل العذراء وابنها - عليهما السلام - أنى توجهت، حتى في بعض غرف الاستقبال في البيوت، وفي بعض غرف النوم، فضلاً عن الكنائس كما أن الواقع التاريخي للشعوب المسيحية - على اتساعها زمانياً ومكانياً - يحكي أنها كانت تربي أبناءها على الصلاة للمسيح قبل النوم، وهذا يدل على مستوى من الحضور لشخصية المسيح في الوجدان العام لتلك الشعوب، حتى أصبح احترامه وتقديره سلوكاً عاماً، يمارسه المؤمن، كما يمارسه من خرج عن دائرة الإيمان المسيحي، فالجميع مجمعون على محبته وتعظيمه. وإذا كان هذا التعظيم - الذي أرى أنه من الوجاهة التي وعد الله بها المسيح - تعظيماً غير مشروع، لبلوغه درجة التأليه، فإني أرى أن عدم مشروعيته لا تنفي الواقع العيني للوجاهة. ولو أن المقصود بالوجاهة في الدنيا، التقدير الذي حظي به المسيح عند من اتبعه على الحق، لم تكن وجاهة تستدعي الإشادة، إذ هي في هذه الحال (التقدير على الوجه الصحيح فحسب) وجاهة تفوقها وجاهة كثير من العلماء والملوك والمبدعين والفنانين. ولهذا فإن ما حظي به المسيح من تعظيم - أيا كان هذا التعظيم - تصديق لما وعده به الله - عز وجل.
وقد وعد الله - عز و جل - المسيح وعداً آخر، كرّمه به، وذلك بأن يجعل الغلبة لمن اتبعه على الكافرين به، قال تعالى للمسيح - عليه الصلاة والسلام -: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} وإذا أضفنا إلى ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: تقوم الساعة والروم أكثر الناس. عرفنا أن العالم المسيحي سيبقى ذا نفوذ، مع ما قد يصيبه من تراجع نسبي، يعتريه بين الحين والآخر، لكنه لن يغيب عن المسرح الدولي غياباً كلياً. وإزاء هذه الحقيقة يجب أن يكون تعاملنا مع الآخر واعيا البعد المستقبلي المرتبط بهذا الآخر ضرورة، ولا نهمل شيئا كثر أو قل من شروط المستقبل القريب، ولا ما هو ضروري للمستقبل البعيد، فالعالم المسيحي حاضر، وسيبقى حاضراً، نتعامل مع هذه الحقيقة وإلا كنا - بجهلنا - جناة على أجيالنا، ومعرة في تاريخ أمتنا.
الحالم- موقوووووووف
- عدد المساهمات : 1116
تاريخ التسجيل : 27/01/2014
مواضيع مماثلة
» خطة تعديل سلوك
» مقال مهم جدا ((إيران من أربكان إلى أردوغان))
» مقال جدير بالقراءه
» تأملات في آية واحدة من القرآن
» شخصية الدجال الخفية
» مقال مهم جدا ((إيران من أربكان إلى أردوغان))
» مقال جدير بالقراءه
» تأملات في آية واحدة من القرآن
» شخصية الدجال الخفية
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى