@@ الغلو في الدين @@
2 مشترك
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات الدعوية ومنبر القرآن وعلومه و الحديث والفقه :: الحوار الاسلامي و المذهبي العام والفتاوى المعاصرة
صفحة 1 من اصل 1
@@ الغلو في الدين @@
العقيدة الإسلامية - موضوعات مختلفة - الدرس ( 02) : الغلو في الدين
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1993-02-07
........................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاَ وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاَ وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الغلو في الدين له تأثير سلبي في المؤمنين :
أيها الأخوة المؤمنون، هذا الدرس من نوع جديد، يتعلق بخطر شديد، له تأثير سلبي في المؤمنين، هذا الخطر الشديد هو الغلو في الدين، ويُستقَى هذا الموضوع من قول الله عز وجل:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
نهي!
﴿ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
وهذا الموضوع أيضاً مستقى من آية أخرى، يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾
[ سورة المائدة: 77 ]
آية أخرى تنهانا عن الغلو في الدين، كما أن التفريط مهلك، والإفراط مهلك، والتسيب، والتحلل، والخروج من أوامر الشرع، والتفلت من قيود هذا الدين العظيم مهلك، والغلو في الدين أيضاً مهلك.
لا بدّ من التوازن بين كليات الدين :
الله عز وجل في آيات كثيرة جداً نهانا عن المعصية، وعن التقصير، والكسل وحب الدنيا، لكن في آيات أخرى نهانا عن الغلو في الدين، معنى ذلك كما يقولون: الإسلام وسطي؛ أي يبتعد عن التطرف، لا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، لا إلى جهة الإفراط، ولا إلى جهة التفريط، الإيمان وسطي، يعتمد على التوازن بين جوانب الإنسان، الإنسان له جانب جسمي، فالعناية بالجسم، والعناية بالصحة، والانتباه لما يدخل في الفم هذا من الدين، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ، وَأَفْطِرْ، وَقُمْ، وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً …))
[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ]
لأن جسدك يحمل نفسك، وهذا الجسد، وهذه النفس تعيش في الدنيا لمهمة خطيرة، فأساس الدين التوازن من الناحية الجسمية، والعقلية، والنفسية، فكما أن العقل غذاؤه العلم، فالقلب غذاؤه الحب، إنسان لا يشعر بحاجة إلى أن يكون محبوباً! ولا يشعر بحاجة إلى أن يحب الله عز وجل! فهو إنسان لا ينتمي إلى جنس البشرية، فلا بد من التوازن بين مطالب الجسم ومطالب الروح والعقل، ولا بد من التوازن بين كليات الدين.
1- الكلية الأولى طابعها علمي :
الدين فيه كليات، أبرزها الناحية العلمية، لأنك إذا أردت الله عز وجل فيجب أن تتعلم، لأنّ العلم طريق إلى الله عز وجل، بل هو الطريق الوحيد إلى الله.
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، بالعلم تعرف الله عز وجل، وإذا عرفته طبقت أمره، وإذا طبقت أمره سعدت في الدنيا والآخرة.
أحياناً أميل للكليات، الدين كله معرفة، وسلوك، وسعادة، جانب معرفي، وجانب عقلاني، وجانب عملي، وجانب عاطفي، فأنت بحاجة لأن تكون سعيداً، لذلك تتمرن بالقلق، والضياع، والتشتت، والشعور باليأس، والسوداوية، والخنوع، والخمول، هذه كلها مشاعر مَرَضية تأتي من الشرك والمعصية.
العوام أحياناً لهم كلمات لطيفة، الإنسان يجب أن يكون حكيمَ نفسه، القصد في الطعام والشراب، هذه الأكلة لا تناسبك فدَعْهَا، أما المعنى الأعمق عندما تستقيم ألاَ تشعر براحة نفسية؟ عندما تمشي على المنهج الصحيح ألاَ تشعر بطمأنينة؟ ألا تشعر بحب الله عز وجل؟ هذا الشعور تضحي به بسهولة من أجل معصية، ولذَّةٍ سريعةٍ؟!!
ألا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً، ورب أكلة منعت أكلات، ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة
الإيمان ليس مجرد قناعات فقط :
أنت يجب بعد فترة من الوقت أن تصبح حكيمَ نفسك، تشعر متى تسعد؟ تسعد إذا صليت الصلوات في أوقاتها، وإذا أتقنت هذه الصلوات، وإذا كان غض بصرك حازماً، وإذا كان لسانك منضبطاً، وإذا كان دخلك حلالاً، وإذا كان الإنفاق حلالاً.
موضوع الجوارح، واستقامة العين، والأذن، واللسان، واليد، واستقامته في مهنته، ودخله، وإنفاقه، وزواجه، وعلاقته ببناته، وجيرانه، وعمله، فعندما تكون مستقيماً ألاَ تجد الفرق واضحاً جداً؟ الثمرة يانعة تقطفها، وتسعد بها، فَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً))
[مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]
هل ذقت طعم الإيمان؟ لا تظنوا أيها الأخوة أن الإيمان قناعات فقط.
حدثني رجل: طبيب ألقى محاضرة في مضار التدخين، وأطلعهم على فيلم وثائقي لسرطان الرئة، لدرجة أن الحاضرين كادوا يتمزقون خوفاً من أن يدخنوا، وبعد أن انتهت المحاضرة أشعل سيجارة، وقال: من له سؤال! هذا الطبيب عنده قناعات عالية جداً، لكنّ القناعات لا تكفي. والنبي قال:
((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ...))
[مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 4]
فالذي يثبتك في الدين هذا التجلي لله عز وجل، لا يوجد أحد منكم قام للصلاة فبكي، وقال: لا أنسى هذه الصلاة، شعرت بسعادة لا توصف، فالذي يثبت الإنسان فضلاً عن قناعاته، وعن منطلقاته الفكرية الذي يثبته سعادته، فأنت بحاجة لجسد قوي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ......))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الإسلام وسطي وازن بين مطالب الجسد ومطالب النفس ومطالب العقل :
لا أكتمكم أبداً أن أثمن نعمة بعد الهدى هي الصحة، من موضوع الصحة أضطر لأدخل بموضوع دقيق يغيب عن معظم الناس.
ربنا عز وجل وضع لهذا الجسد قوانين وقواعد، هل تدري أنه من طاعة الله تعالى أن تتأدب مع هذه القوانين؟ إذا كنت معظِّماً لله فهذه قوانينه، والمؤمن يحترم قوانين الله عز وجل، فكل إنسان يهمل صحته يقول: أنا يحبني الله، أنا متوكل على الله، كل وسمِّ الله، لا يضر مع اسمه شيء، إذا كانت علاقتك بجسدك علاقة ليست علمية، بل علاقة جهل فعلى الإنسان أن يستعد لمتاعب لا حصر لها، لذلك أنا أقول لكم، وأعني ما أقول: العناية البالغة بالجسد جزء من الدين، ومعنى العناية؛ هذا الجسد آلة بالغة التعقيد، صممته يا ربّ تصميماً عالياً جداً، فالعناية بالجسد من حيث اتباع القوانين يعني أنك تطيع الله عز وجل، فنحن لا نقول: إن العناية بالصحة تطيل العمر هذا كلام الغربيين.
أقول لكم: العمر عمر، والأجل أجل، لكن هذه السنوات القليلة التي سمح لك الله أن تعيشها، فبين أن تعيشها مريضاً، وبين أن تعيشها صحيحاً، إنسان ملازمٌ للفراش ثلاثين سنة، مات بأجله، لم ينقص من أجله ولا ساعة، بل ولا ثانية، لكن الفرقَ بيِّنٌ بَيْنَ إنسان متَّعه الله بالصحة والقوة، فحركته نشيطة، ورأس مالك صحتك، وبيْن إنسانٍ ابتلاه الله طول حياته بمرض عضال.
فهذه النقطة دقيقة جداً، دعوا في أذهانكم هذه الحقيقة: أُولى النعم التي تفضل الله بها عليك الهدى، ثم الصحة، ثم الكفاية، فإذا عرفت الله عز وجل، وكنت لا تشكو شيئاً، وذا كفاية فقد حزت الدنيا بحذافيرها.
الإسلام وسطي، فقد وازن بين مطالب الجسد، وبين مطالب النفس، وبين مطالب العقل، فالعقل غذاؤه العلم، والقلب والنفس غذاؤهما الحب والقيم، والجسد غذاؤه الطعام والشراب، فالدين كما قلت قبل قليل له كليات، القسم العلمي المعرفي، طلبُ العلم، العقيدة الصحيحة أن تؤمن بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، وموجوداً، وواحداً، وكاملاً، وصفات قدرته وكماله لا حدَّ لها، أن تؤمن بأنبيائه، وبكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه كليات أن تتعرف إلى أحكام الفقه المتعلقة بحياتك، فأنت كزوج، أو كزوجة، أو كتاجر، أو كموظف، أو كمحامٍ، أو كمدرِّس يجب أن تعرف الأحكام الفقهية المتعلقة بحياتك الشخصية، وبحياتك المهنية.
2 ـ الكلية الثانية عملية :
الكلية الثانية في الدين إضافة إلى هذه العقيدة الصحيحة، وهذا الإيمان المبني على دليل، وهذا البحث الدقيق، إضافة إلى الناحية العلمية لا بد من ناحية سلوكية، لا تنسوا هذه المقولة: علم بلا عمل جنون، وعمل بلا علم لا يكون.
عمل راقٍ من دون علم بالله مستحيل لا يكون، وعلم بلا عمل جنون، والله عز وجل في أكثر من مئتي آية في القرآن قَرَنَ الإيمان بالعمل الصالح.
فالكلية الأولى طابعها علمي، الكلية الثانية عملية، سلوك ضبط لسان، والسلوك نوعان؛ سلوك سلبي، ضبطت لساني، وجوارحي، وعيني، وأذني، وقدماي تحركت إلى المساجد، وإلى طاعة الله عز وجل، والشيء الإيجابي البذل في العمل، الاستقامة طابعها سلبي، والعمل الصالح طابعه إيجابي، الاستقامة تمهيد الطريق إلى الله عز وجل، والعمل الصالح حركة على هذا الطريق، هذه الناحية العملية.
3 ـ الكلية الثالثة طابعها انفعالي :
الناحية الثالثة: الناحية الانفعالية، أنت غير جسمك، وغير عقلك، لك قلب، وهذا القلب تنتابه مشاعر، أحياناً تجد نفسك مرتاحاً، أو منزعجاً، أو تجد قلبك مقبوضاً، أو تشعر بضيق، أو تشعر بملل، هذه المشاعر يجب أن تنتبه إليها، فالمشاعر لها أثر كبير في السلوك، فإذا كانت هناك مشاعر مثبّطة، فتجد نفسَك قد بَرَكَتْ، وإذا كان ثمة مشاعر محركة تتحرك، يمكن أن تكون المشاعر من نوع المحرك، بعض الصوفيين يسمونه حالاً، الله سماه السكينة، الصحابي الجليل سيدنا حنظلة قال: ماذا قال؟ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:
(( لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ]
أليس لك مشاعر متألقة؟ ألا تشعر بعد عمل صالح، وبعد أداء الصلوات، وبعد خدمة إنسان، ومجلس علم، ودعوة إلى الله، ألا تشعر بسعادة، وكأنك تملك الدنيا؟ فأنت حكيم نفسك، يجب أن ترعى الناحية العقلية، وتعتني بإيمانك، وبتصوراتك الصحيحة، وبقناعاتك، والناحية السلوكية، والناحية الانفعالية.
الغلو أنْ تأخذ أحد الجوانب فتجعله الدين كله :
أنا كنت أقول دائماً: الإيمان مرتبة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ومرتبة سلوكية، المؤمن أخلاقي، ومنضبط، وهناك منظومة قيم، تضبط سلوكه، وليس متروكاً على هواه ومزاجه، أنا لا يحلو لي إلا أن أقول عن الإنسان الكافر الفاجر: دابة متفلِّتة، يرفس، تحسن له فيسيء، يأخذ ما له وما ليس له، كالبهيمة، أما المؤمن فتضبطه آلاف المشاعر، والكلية الثالثة: الحال، الآن عنوان الدرس الغلو في الدين، فما الغلو في الدين؟ أن تأخذ كلية من كليات الدين، فتجعلها الدين كله! أن تعتقد أن الدين فقط مطالعة، وتأليف، ومعلومات دقيقة، وأفكار، فتجده متفوقاً جداً في العلم، لكن قلبه متصحر، العقل من ذهب، والقلب من حديد، نريد العقل والقلب من ذهب، فإذا كان العقل ذهباً، والقلب ذهباً فلا بأس، لكن بشرط أن يكون ذهباً خالصاً، ليس العقل ذهباً، والقلب حديداً صدئاً.
وقد ورد في الأثر: "إن القلوب لتصدأ، قيل: وما جلاؤها؟ قال: ذكر الله".
فذكر الله عز وجل يطمئن القلب، قال الله عز وجل:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه: 14]
وآية ثانية قال:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد: 28]
فأنت إذا بحثت عن سعادتك النفسية وجدتَها في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن، والتسبيح، والحمد، والاستغفار، هذا جانب من جوانب الدين.
فأول جانب في الدين الجانب العلمي، والجانب الثاني هو الجانب الانفعالي الشعوري، والثالث سلوكي، الغلو: أنْ تأخذ أحد الجوانب فتجعله الدين كله.
الغلو معناه مجاوزة الحد والحد هو النص الشرعي :
بعضهم يرى أن صفاء القلب هو الدين كله، لذلك معلوماته الفقهية ضعيفة جداً، وفيها يرتكب أخطاء كبيرة، وليس معه دليل لكن يشعر بالصفاء، فهذا غلو في الدين، والذي اعتنى بمعلوماته، وبالأفكار، والدراسات صار طليق اللسان، لكن في قلبه صدأ، وفي عمله كسل، هذا غلو في الدين، أن تحل كُلِّية من كليات الدين محل الدين كله، فما قولكم بمن يأخذ فرعاً من فروع الدين ويجعله الدين كله؟ هذا أشد أنواع الغلو، أن تأخذ كلية من كليات الدين، وتجعلها الدين كله، هذا غلو لا شك فيه، أما أن تأخذ فرعاً صغيراً من فروع الدين، وتجعله الدين كله فهذا غلو، وأيُّ غلو، نحن مطلوب منا التوازن، عندما ترجح جانباً على جانب، وتضخم جانباً، وتصغر جانباً فقد وقعت في الغلو وأنت لا تدري، لذلك أجمل كلمة قالها بعض العلماء السابقين: كان التصوف مسمى بلا اسم في عهد رسول الله، التصوف يعني معرفة، ومحبة، وذكر لله، ورياضة للنفس، فالصحابة الكرام كانوا في أعلى درجات التصوف، لكن لم يكن اسمهم صوفيين، بل أصحاب رسول الله، كانوا في القرآن مؤمنين، ثم أصبح التصوف اسماً بلا مسمى، وبلا مضمون، نحن نريد المضمون.
الغلو معناه مجاوزة الحد، ما هو الحد؟ هو النص الشرعي، لماذا؟ لأنك عبد جاءك خطاب من الله عز وجل، مِن خالق الكون، والله عز وجل قال:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
[ سورة الأحزاب: 36]
أهمية الصحة النفسية :
إذا ملكتَ آلة غالية الثمن، أو كان دخلها كبيراً، وهناك أجهزة تدرُّ أرباحاً طائلة، إذا كان هناك جهاز كومبيوتر لتحليل الدم، كل كبسة زر بألف ليرة، يظهر على الشاشة سبعة وعشرون تحليلاً، وبزرٍّ آخر يُطبعون على ورقة، واللهِ أمرٌ سهلٌ، يقف في عيادتك خمسين شخصاً ينتظرون، وكل زبون أخذت له نقطة دم، وحلَّلتها، وبزرٍّ واحدٍ إذا ثمانية وعشرون تحليلاً يظهر، فإذا كان الجهاز من هذا النوع غالياً جداً، ودخله كبير جداً، ألست حريصاً على سلامته، وصيانته، وحريصاً على أن يعطيك أعلى مردود بأقلِّ جهد؟ طبعاً، لذلك إذا كان الجهاز غالياً عليك، ودخله كبير، فأنت حريصٌ حرصاً بالغاً على سلامته، فتجد كلما اشترى الإنسان شيئاً جديداً، آلة حديثة، فأوَّلُ شيء يطلبه (الكتالوج) نشرة التصنيع، أرجو أنْ تترجموه، ترجموه، يخاف أن يستعمله بالخطأ، لماذا عندك حرص شديد؟ لأن الآلة غالية عليك، وصعب أن تعوِّضها، وإذا تَلِفَتْ صَعُبَ تصليحها، لا أحد يفهم في إصلاحها، سيخربونها، لا يوجد مهندسون يفهمون، والكل يجرِّب، يقول: أريد تطبيق الوكالة، سأعتني باستعمالها، أنت أغلى من الآلة بمليون مرة، فإذا شعرت بقيمتك قالوا: مَن عرف نفسه عرف ربه، إذا كانت لك نفس يمكن أن تُسحق هذه النفس، ويمكن أن تتعذب، درسنا في الجامعة في الصحة النفسية مرضاً اسمه الهستريا، كل الناس يقولون: فلان مهستر، هذه لها استعمال عامي، مجنون، أو نصف مجنون، الهستريا ليس له علاقة بالجنون إطلاقاً، شلل عضوي لأسباب نفسية. نضرب بعض الأمثلة: إنسان اعتدى على فتاة في بيت أبيها، كان مريضاً، وهو يقدم خدمات لأبيها، شعر بوخز الضمير، أدى الأمر به إلى شلل في يده، المرض دقيق؛ تعريفه: شلل عضوي، ليس له أسباب عضوية، الأعصاب ممتازة، والتروية جيدة، كل ما يتعلق بالعضو مئة بالمئة، لكن هناك شلل أسبابه الشعور بالذنب، عقدة الذنب، وخز الضمير، هذه هي الفطرة، فأنت عندما تسير على الصراط المستقيم تشعر براحة، وهي ثمينة جداً، وهذه الراحة في بعض البلاد مفقودة، يقول: نسب الانتحار عالية جداً، لماذا؟ بسبب الشعور بالكآبة، المرض الخطير في العالم مرضُ الكآبة، وكل شيء عنده، ومع ذلك تنتابه كآبة، وفي بلدنا يوجد منه، تجد المال متوافراً، ثلاث سيارات تقف على الباب، للزوجة سيارة، ولكل ابن سيارة، وله سيارة، وبيت في المصيف، وعلى البحر بيت، لماذا هو حزين إذاً؟ انقباض نفسه تحاسبه، لو لم تتلقَ علماً، لو لم تدرس ديناً، لو لم تسمع خطباً ففطرتك عالية، عندما تخرج عن فطرتك تشعر بوخز الضمير، تسميه شعور بالكآبة، أحياناً إلى انفصام شخصية، أسبابه الوخز، واللوم الداخلي الشديد، فيهمنا الصحة النفسية، وسلامة النفس، والجسد، والعقل.
المؤمن إنسان عرف نفسه وعرف مهمته في الحياة :
اسمع إلى ما قاله الله عز وجل:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[ سورة طه: 123 ]
لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، هدى الله عز وجل غذاء للعقول، بالتعبيرات الدارجة المؤمن شيء كبير، هل هو شخص عادي؟ هو أمة، وحقق الهدف من وجوده، المؤمن إنسان عرف نفسه فعرف ربه، عرف مهمته في الحياة، يمشي على بصيرة.
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
[ سورة يوسف: 108 ]
يمشي على منهج، على دستور.
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[ سورة طه: 123 ]
الآية الثانية:
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 38 ]
شعور الندم يفوق كل شعور.
قصة أصحاب الجنة الذين حدثنا الله عز وجل عنهم :
أصحاب الجنة الذين حدثنا الله عز وجل عنهم قال:
﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ*أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ﴾
[ سورة القلم: 21-22 ]
حدثنا الله عن هؤلاء كيف أرادوا أن يمنعوا حق الفقير.
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾
[ سورة القلم: 19-20 ]
في اليوم الثاني انطلقوا إلى بساتينهم ليقطفوا ثمارها.
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴾
[ سورة القلم: 26 ]
هذا ليس بستاننا، البارحة تركنا بساتيننا مليئة بالخير، فأين الأشجار؟ لا شجر، ولا ثمر، ثم تأكدوا أن هذه بساتينهم، قال تعالى:
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾
[ سورة القلم: 27-29 ]
قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
[ سورة القلم: 33 ]
شعور الندم شعور صعب جداً.
النص الشرعي القطعي الثبوت على الإنسان أن يفهمه وفق علم الأصول واللغة العربية:
الإنسان أحياناً يخسر، وصفقة الخسارة مؤلمة جداً، يقول: سنتان تعبنا فيهما، واستوردنا، شحنا، وبعنا، واستقرضنا، ثم لم نحصّل ثمن البضاعة، خسرنا مليونين، كثير من الناس ممّن اشترى مركبات، ثم انخفض سعرها، بعض المكاتب قال: خسرت في شهر أربعة ملايين! الخسارة مؤلمة جداً، لا يعرفها إلا مَن ذاقها، إذا سألت تاجراً عن الخسارة تخرج منه شهقة من أعماق أَعماق قلبه، قد يخسر الإنسان مالاً، لكنه يعوضه فيما بعد، وكثير من التجار أعلنوا إفلاسهم مرتين، وثلاثاً، ثم عادوا, أصبحوا مِن أصحاب الملايين، أما الآخرة فالخسارة أبدية، ولا يعقبها ربح، إنها خسارة محققة.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
[ سورة الكهف: 103-104 ]
الغلو مجاوزة الحد، والحد هو النص الشرعي، كلام الله، وما صح من كلام رسول الله، هذا النص الشرعي ينبغي أن تفهمه لا على مزاجك، ينبغي أن تفهمه وفق قواعد علم الأصول، ووفق قواعد اللغة العربية، فالنص الشرعي القطعي الثبوت؛ سواء كان قرآناً، أو حديثاً صحيحاً، يجب أن تفهمه وفق قواعد علم الأصول وقواعد اللغة العربية، وإنّ مجاوزة هذا النص هو الغلو في الدين.
لذلك أكثر الغلاة في الدين رأيُهم هو الأصل، فالنص الذي يغطي غلوهم يتمسكون به، ويرددونه، ويسلطون عليه الأضواء، والنص الذي ينقض غلوهم يهملونه، فإذا ذُكِّروا به صرفوه إلى غير المعنى الذي أراده الله عز وجل، فأن تختار من النصوص ما يروق لك، وأن تكثر من ذكره، وتسلط عليه الأضواء، وتهمل نصاً آخر فهذا أيضاً غلو في الدين، أن تأخذ شيئاً بلا دليل، لأنه راق لك فهذا غلو في الدين، أن ترفض شيئاً معه أقوى دليل لأنه لم يَرُقْ لك فهذا غلو في الدين.
الغلو في الدين نوعان؛ غلو اعتقادي وهو الأخطر وغلو عملي وهو أقل خطراً :
شيء آخر في الغلو، الغلو في الدين أيها الأخوة نوعان: نوع خطر جداً، وهو النوع الاعتقادي. عقيدة تخالف ما جاء في القرآن الكريم هذا غلو، أو انحراف، أو خروج عن قواعد الدين، فأخطر شيء في حياة الإنسان أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل تصوراتي صحيحة؟ هل نظرتي صائبة؟ هل رؤيتي صحيحة؟ هل اعتقادي صحيح؟ هل إيماني صحيح؟ أما إذا وجد في إيماني جانب غير صحيح أو تصورٌ موهوم، وإذا ضخمت، أو قلَّلت، أو أغفلت، أو خرجت فهذا كله غلو في الدين، ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
وفي حديث صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ:
((الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ: أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))
[سنن ابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
الغلو الاعتقادي خطير! من أبرز تعاريفه أن تأخذ فرعاً من فروع الدين، وتكبره، وتضخمه حتى تجعل منه الدين كله، الآن لو تتبعت الفرق الإسلامية والجماعات، فكلُّ فرقة أو جماعة أخذت جانباً صغيراً، وضخمته، وجعلته هو الدين، هذا هو الغلو، والصواب في هذا التوازن، والوسطية، والاعتدال، والحق دائماً وسطٌ بين طرفين.
الغلو الاعتقادي أيها الأخوة خطير، لماذا؟ لأن المغالي على خطأ وهو يظن أنه على صواب، المغالي لا يتوب من غلوه، إذا كان الغلو اعتقادياً فهو كما وصفه الواصفون: لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فمِنَ الناس مَن يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافل فنبهوه، منهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا شيطان فاحذروه، فالذي لا يدري ولا يدري أنه يدري فهذا مُغالٍ في الدين، أما الغلو العملي فهو أقل خطراً.
أحياناً وسوسة في الوضوء، فيعيده مرتين أو ثلاثاً، وسوسة في الطهارة، وسوسة في بعض الأفعال، هذا غلو، لكنه عملي سهل، أما أخطر غلو في الدين فهو الغلو الاعتقادي، تأخذ فرعاً، وتضخمه، أو تغفل كلية من كليات الدين، أو تغفل جانباً من جوانب الدين.
أسباب الغلو :
لو سألنا هذا السؤال: ما هي أسباب الغلو؟ مَن يقترح سبباً وجيهاً لأسباب الغلو؟ أشد الأسباب براءة الجهل، يفعل الجاهل بنفسه ما لا يستطيع أن يفعله به عدوه، الجهل علاجه العلم، فلا طريق إلى الله إلا بالعلم، الجهل أحد أَوْجَه الأسباب البريئة في الغلو، فالجاهل يجب أن يتعلم، لكن المشكلة أحياناً أن الإنسان جاهل، لكن يظن أنه عالم، فهذا يرفض أن يتعلم، لذلك قالوا: تعلّموا قبل أن ترأسوا، فإن ترأستم فلن تعلّموا، الجهل علاجه العلم.
سيدنا عمر بن عبد العزيز ناظر ألفين من الخوارج، وفي مجلس واحد رجعوا عن خروجهم، وعادوا إلى الصراط المستقيم، فالإنسان إذا اعتراه الجهل، وقاده إلى الغلو، وإذا لم يصغِ إلى النصيحة، يبقى جاهلاً، ويموت جاهلاً متلبساً بغلوه.
غلو آخر أسبابه غير الجهل، هو الهوى، الإنسان أحياناً تكون عنده رغبة في شيء دنيوي، فيجرُّ النصوص لصالحه، في الإنسان انحراف، وفيه هوى معين، ومطمح معين، وله دنيا معينة، فتجده يجرُّ النصوص كلها لمصلحته، هذا أيضاً غلو في الدين. قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً فارغاً فتمكـــنا
* * *
الإنسان عندما يفتح أذنه لكل النوافذ يتلقى هواء نقياً، فالغلو أساسه الجهل، أو الهوى وهناك غلو أساسه غلو الطرف الآخر، لكنه قليل.
نحن كمؤمنين يجب أن نعرف أن في الدين كليات؛ الكلية الأولى الناحية العلمية، والكلية الثانية الناحية السلوكية، والكلية الثالثة الناحية الانفعالية، تسميها سكينة فهو اسم صحيح، أو حال صحيح، والحال كما تعرفون ثمرة من ثمار طاعة الله عز وجل، أنا ذكرتُ لكم قصة مرتين أو ثلاثاً: أخ كريم على مشارف الزواج والدخول، وله أخ غير متزوج، وهو في أمسِّ الحاجة إلى الزواج، والبيت موجود، والمرأة مناسبة لهذا الأخ، لكن هذا الأخ ليس في يديه شيء، فماذا فعل؟ حضر درساً من دروسنا، وكان محور الدرس: أن أعظم عمل يفعله الإنسان أن يُدخِل على قلب أخيه المؤمن سروراً، فهذا الأخ الكريم باع غرفة النوم، وعرسه بعد عشرة أيام، واشترى غرفتان متواضعتان، وقام بصيانتهما، ورتب بعض الأمور، وزوج أخاه، ثم يذكر هذا الأخ أنه انغمس في سعادة ما بعدها سعادة.
الإنسان لن يكون صاحب حال إلا إذا كان له عمل كالجبال :
نقطة دقيقة: فرق كبير بين أن تقول: ألف مليون، وبين أن تملكها، فالحديث عن الحال سهل، أما أن تكون صاحب حال فالقضية غير سهلة، لن تكون صاحب حال إلا إذا كان لك عمل كالجبال. العمل العظيم: التضحية والمؤاثرة...
كان أحد الأخوة راكباً سيارته، قادماً إلى الشام، فقال: وجدت شخصاً واقفاً بمدينة دُمَّر، معه امرأته، ويحملان طفلاً، وكأنهم غرباء عن هذه البلدة، فتوقف وسألهم: أين تريدون أن أوصلكم؟ وهذا في أثناء أحداث لبنان، الرجل والزوجة والطفل حرارتهم مرتفعة فأخذهم إلى طبيب مناوب في المشفى من أجل الإبر، ثم اشترى الدواء، وبعد أن قضى الخدمات حتى الساعة الرابعة صباحاً أقسمَ بالله أنه بقي أسبوعين يشعر بسعادة لا توصف، فالحال مقياسه شيء ثمين جداً، فقد يكون دعوة، وقد يكون حالاً حقيقياً، الدعوة أن تتحدث عن الحال، أما الحال الحقيقي أن تكون مستقيماً استقامة تامة، وتضحي بشيء ثمين في سبيل الله عز وجل، فأول ثمن أنْ يعود الله عليك بالتجلي، وهذا ما تسميه الثواب.
فما معنى الثواب؟ من فعل ثاب أي رجع، إذا قدمت لله شيئاً عظيماً يرجع عليك حال طيب، فهذا الحال هو جانب من الدين، والسلوك جانب، والإيمان الصحيح جانب، فثمّة ثلاثة جوانب، فإقامة هذه الجوانب إقامة متوازنة هو الوضع الصحيح، أن تأخذ جانباً وتحله محل كل الجوانب فهذا غلو، وأن تأخذ فرعاً وتضخمه لتحله محل الأصل، فهذا أيضاً غلو في الدين.
فضل صلاة الفجر في المسجد :
بقي موضوع آخر سوف نعالجه فيما تبقى من الوقت: نحن والفضل لله عز وجل في صلاة الفجر يقرأ أخونا الكريم الإمام ـ جزاه الله عنا كل خير ـ في صلاة الفجر القرآن الكريم كله في عام، ويقرأ إن شاء الله تعالى القرآن كله في رمضان، وقد ورد فضل صلاة الصبح في المسجد جماعةً فضلٌ كبير، فعَنْ جُنْدَبِ بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ....))
[مسلم عَنْ جُنْدَبِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ]
فما معنى في ذمة الله؟ أي في حفظ الله، وفي الأثر: ابن آدم لا تعجز عن ركعتين قبل الشمس أَكْفِك النهار كله، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 6 ]
سبب هذه الكلمة أننا إن شاء الله تعالى يوم الجمعة نختم القرآن الكريم في صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء، وثمة رغبة أن نقيم صباح الجمعة مولداً بسيطاً، حيث نختم القرآن الكريم، وندعو الله عز وجل، فلعل سبحانه يهدي أخواننا الكرام أن يتشجعوا لينضموا لصلاة الفجر، فاليوم من فضل الله ضاق بنا المكان، أربعة صفوف، وازدحام شديد، فإذا استمر هذا الإقبال سوف نضطر غير آسفين إلى أن ننتقل إلى الحرم الأساسي، فأنتم مدعوُّون صباح الجمعة إلى احتفال بسيط، بمناسبة ختم القرآن الكريم الذي قرِئ كله بفضل الله عز وجل في صلاة الفجر، لكن هذا يقودنا إلى شيء: عندما تسير في طريق الإيمان فلك جلسة خاصة مع الله، أساسها الصلاة. صلاة الفجر في المسجد لا تعدلها صلاة أخرى، وذاقها من عرفها، أو عرفها من ذاقها، صلاة الفجر في المسجد:
((مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ))
[ البخاري عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
الله عز وجل لا يحده مكان ولا زمان فهو خالق المكان والزمان :
البيت له طبيعة خاصة، السرير، واللحاف، والأولاد، والزوجة، وغرفة النوم، وأشياء كثيرة جداً تصرفك عن الذكر وعن الصلاة، فتصلي في البيت، لكن الصلاة في المسجد لها طعم خاص، والصلاة في البيت لها طعم آخر، فالذي يريد أن يصلي صلاة يشعر فيها بقرب من الله عز وجل فليصلِّ الفجر في جماعة، سِرْ نحو الله في الليل، ولا تخشَ وحشته، فالأنس في طيب ذكره سبحانه، هؤلاء الذين يمشون إلى بيوت الله في الليل لهم عند الله أجر كبير، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزُور أن يكرم الزائر.
مرة كنت سألتقي مع شخص فسألته متى تملك الوقت؟ قال: باكراً، قلت له: متى؟ الساعة التاسعة؟ قال: قال الساعة السادسة في المكتب! هذا غير معقول، هل هناك مكتب يفتح الساعة السادسة؟ قال: كنت صغيراً، وكان والدي يوقظني قبل الفجر بساعة، وأتوضأ، وأصلي قيام الليل معه، ثم أذهب إلى المسجد، فهذه العادة بقيت فيّ حتى الآن، فأنا أبدأ عملي الساعة الخامسة فجراً بالمكتب، قلت له: شيء جميل رحم الله أبيك الذي غرس فيك هذه العادة الطيبة، فإذا الإنسان صلى الفجر في جماعة، وذاق طعم القرب في المسجد، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هذه لا تفهموها فهماً مادياً فإنّ الله عز وجل لا يحدّه مكان، ولا يسأل عنه أين هو؟ فهو خالق المكان، ولا متى كان؟ فهو خالق الزمان، لكن معنى النزول التفضل، ومعنى المجيء، قال:
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صفّاً ﴾
[ سورة الفجر: 22 ]
هذه الآيات وقف الناس منها مواقف أربع موقفان صحيحان وموقفان منحرفان :
قال تعالى:
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 10]
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾
[ سورة المجادلة: 1]
له سمع؟ سميع أي عليم، هذه الآيات وقف الناس منها مواقف أربعة: موقفان صحيحان، وموقفان منحرفان، أول موقفٍ موقفُ التفويض، فالسلف فوضوا إلى الله تفسير هذه الآيات، وموقف الخلف التأويل، قال: مجيئه أيْ مجيء أمره، ونزوله تفضله، ويده قوته، وسمعه وبصره علمه. وأما الذين جسدوا فهؤلاء ضلوا، وأما الذين عطلوا فقد ضلوا أيضاً، عندنا أربعة اتجاهات، التأويل، والتفويض، والتعطيل، والتجسيد، التعطيل والتجسيد في آيات الذات انحراف خطر، والتأويل والتفويض موقف سليم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الذين ذاقوا طعم القرب إذا رجع العبد إلى الله نادى مناد في الأرض: أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، هذا شيء لطيف جداً، ذاق طعم الإيمان َمن اصطلح مع الله.
أتمنى على كل أخ كريم أن يصلي في مسجد قريب منه، بإمكانه أن يلزم الجماعة في الفجر، وغالباً الفجر فيه روحانية خاصة، ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 6 ]
ما ينشأ لنفسك من تجلِّيات في الليل لا يكون في النهار.
التوازن بين العمل والصلة وبين الذكر والطاعة :
هناك قول يقول: إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل، وسيدنا عمر بن الخطاب كان له عامل على أذربيجان، هذا العامل أرسل رسولاً مع هدية ثمينة، فوصل الرسول المدينة في منتصف الليل، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين، فتوجه إلى المسجد، وفي المسجد سمع رجلاً يناجي ربه ويقول: هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها، فقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر، قال: يا سبحان الله! ألا تنام الليل يا أمير المؤمنين؟ أنا كرهت طرق بابك خشية أن أوقظك، فقال: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي.
سيدنا داود رجّح الصلة بالله على العمل الصالح فعاتبه الله، سيدنا سليمان رجح العمل الصالح على الصلة فعاتبه الله، فلا بد من التوازن بين العمل والصلة، وبين الذكر والطاعة، وإنّ التوازن مطلوب، فإذا تمكن الإنسان أن يجعل لنفسه جلسة مع الله صباحاً تقرأ فيها بعض القرآن الكريم؛ خمس صفحات، أو عشر صفحات، فإن في ذلك فضلاً كبيرا، لقول الله عز وجل:
﴿ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾
[ سورة الإسراء: 78 ]
يمكن أن تقرأه، وتقول: لا أشعر بشيء، وهذا ممكن! هذا امتحان، المؤمن إذا كان حريصاً أن يدخل البيت يطرق الباب، في العيد معه بطاقات، يريد وضع بطاقة، فيضرب ضربة واحدة، ويضع البطاقة، ويذهب، لا وقت له ليدور على كل البيوت، إذا لم تكن حريصاً على دخولك إلى البيت ترنّ الجرس ضربة واحدة، أما إذا كان هناك حرصٌ شديد تصير ملحاحاً.
أخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
* * *
أحياناً يمتحن الله صدقك فيسد عليك الأحوال، تقرأ القرآن فلا شيء يغلقه، ويقوم مِن الصفحة الأولى، اقرأ خمس صفحات حتى لو لم تشعر بشيء، في اليوم الثاني لعلك تشعر بشيء. حدثني أخ ذهب إلى العمرة، يظن نفسه أنه يجب أن تكون له أحوال، فقال: وصلت المدينة، فدخلنا المقام الشريف، ولم أشعر بشيء! أعوذ بالله، وكأنني أدخل مسجداً في الشام، رسول الله أمامه! قال: لم أبكِ، ولم أتأثر، فأصابه انكسار، وعاد إلى الفندق مكسوراً كاليتيم، أين أحواله، وإقباله، وطريقه، وأذكاره، ووِرده؟ في اليوم الثاني تحسن الحال قليلاً، في اليوم الثالث تفضل عليه الله.
لا يجب على الإنسان أن ينسحب من أول صدٍّ، فإنّ الله عز وجل عزيز، ولا يقبلك بسهولة، أنت طالب ودِّ الله، والمؤمن يخطب ودَّ الله عز وجل، أحياناً إذا خطب الإنسان بنتاً، وقيل له: ليس لك نصيب، يوسّط لهم أقرباءهم، أو يبعث جهة ثالثة ورابعة يرى من يمون عليهم، يحسن الحسن، من أجل فتاة يقوم بعشرات المحاولات، أليس من الأكمل أن تكون قريباً من الله عز وجل، وأن تبذل بعض المحاولات؟ وقد ورد في الأثر: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها، علي أن أصلي الفجر في وقته، وفي جماعة، وأن أخشع في الصلاة، فإذا تجلى الله على قلبي في حال، معنى ذلك أن الله أكرمني اليوم، فالأحوال نفحات، فهيئ نفسك لها: ألا فتعرضوا لها.
لاحظ التاجر يهيئ البضاعة، ويقول: عندنا موسم لا يعلم ما سيكون فيه، لكن يهيئ نفسه، لو طلب مني بضاعة جاهزة، عندنا بضاعة، وعندنا في المستودعات، وأنا مهيأ نفسي من أجل البيع، إنسان لم يهيئ نفسه لن يكون هناك بيع، لا توجد بضاعة، هذا كلام غير تجاري.
الذكر والدعاء :
أرجو الله عز وجل أن نعتني جميعاً بمجلس صباحي، والأولى أن يكون في المسجد، هذا المجلس يتضمن صلاة الفجر، وتلاوة القرآن، وشيء من الذكر، تحب ذكر اسم الله المفرد، هناك آية تؤكد ذلك، أن تقول: الله اَلله الله، هل هناك آية هكذا؟ قال تعالى:
﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾
[ سورة المزمل: 8]
اسم الله الأعظم هو الله، فإذا قلت: الله اَلله فهذا ذكر، وهناك ذكر الحمد، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والدعاء ذكر، والثناء دعاء، فهل عندكم دليل على أن الثناء دعاء؟ سيدنا يونس قال:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
أثنى على الله:
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
لم يسأل سؤالاً، فالثناء دعاء، والحمد، والتسبيح، والاستغفار، والصلاة على النبي ذكر.
﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
[ سورة العنكبوت: 45 ]
فشيء من الذكر، وشيء من التلاوة والصلاة، وإذا أضفت التفكر في الكون هذا طريق سريع لله عز وجل، هذه الجلسة إن كانت في الفجر أطمح إذا حضر أخواننا إلى الفجر أنْ نقوم ببعض الذكر بعد الصلاة، وشيء من التفكر والتلاوة، حيث يشعر أنه قضى هذه الحصة في المسجد، هذا شيء من طموحي إن شاء الله، ووجدت إقبالاً شديداً على صلاة الفجر، في العادة أكثر المساجد سبعة أشخاص أو ثمانية، ومن فضل الله عندنا أربعة صفوف وازدحام، ويمكن أن ننتقل إلى الحرم بعد فترة، على كلٍّ ذاق طعم القرب مَن صلى الفجر في جماعة، وثمة أحاديث صحيحة تؤكد أن صلاة الجماعة تعدل صلاة المفرد بسبع وعشرين ضعفاً.
ملخص الدرس :
ملخص الدرس: التوازن يعني أن تعتني بعقلك، وبقلبك، وبجسدك، وتتمتع بعقيدة صحيحة، وسلوك مستقيم، وحال طيب، إذا ركّزت على الحال فقط وقعتَ في الغلو، أو ركزت على الاستقامة، أو على الفكر وقعت في الغلو، تأخذ فرعاً تجعله هو الدين فهذا غلو، تأخذ جزءاً فتجعله الكلَّ فهذا غلو، هذا الذي أتمنى على الله عز وجل أن يكون في قناعاتكم جميعاً، على كل نحن في رمضان بفضل الله، وهذه السنة الخامسة نتلو في صلاة التراويح والفجر القرآن كله، فالإنسان له مناسبة أن يستمع لتلاوة القرآن بصوت حسن، مع أحكام تجويدية طيبة، أن يستمع لها بشكل متسلسل، في رمضان إن شاء الله عندنا درس بعد الفجر، ودرس بعد التراويح، وسيكون الدرس بطريقة فيها فاعلية.
في التربية والتعليم أسوأ طرق فيها هي الإلقاء، أما السؤال، والجواب، والحوار، وطرح الأسئلة يضفي فعالية لدى المستمعين، ويرسخ المعلومات، فأنت كمستمع يمكن أن تشرد، أما كمسؤول فعليك أن تجيب، فنحن في الشهرين السابقين كنا نقرأ جزءاً، ونهيئ أسئلة نريد منه إجابة، هذه الطريقة لاقت ارتياحاً شديداً عند أخواننا الكرام، فصار الأخ يصلي وكلُّه يقظة، أنه سوف يُسأل، فتابع القرآن، والدليل:
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
ماذا قال الإمام؟ واللهِ لا أذكر! الآن صليت العشاء، ماذا قرأ مِن السور؟ واللهِ لا أذكر، هذه مشكلة كبيرة جداً، أي لم يعلم ما قاله الإمام، والله عز وجل قال:
﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
الإنسان الذي لا يعلم ما يقول في الصلاة فهو في حكم السكران :
النبي قال:
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ))
[ ورد في الأثر ]
إذا لم يعلم الإنسانُ ما يقول كان في حكم السكران.
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
إذا قرأ الإنسان الفاتحة بشكل صحيح قال:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
[سورة الفاتحة: 5-6]
طلب:
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
[سورة الإسراء: 53]
سألته أن يبين لك الصراط المستقيم، فجاءك الجواب في آيات الركعة الأولى، ركعت خاضعاً، وسجدت مستعيناً، فوجدتَ التكامل، قرأت الفاتحة، أعلنت عن حمدك، وخضوعك، وإيمانك، وسألت الله الصراط المستقيم، فجاء الجواب في آيات الركعة الأولى، فركعت خاضعاً، وسجدت مستمداً العون من الله، هذه ركعة أولى، فإذا قرأت الفاتحة في التراويح كما أرادها الله عز وجل، واستمعت إلى آيات الله تتلى عليك، وبعدها ركعت خاضعاً، وسجدت مستعيناً، فقد اقتربت من الصلاة التي أرادها الله عز وجل.
بعض الأخوة صلوا في المدينة المنورة وراء إمام، فحدثوني أنهم شعروا بسعادة لا توصف! حتى إن أحدهم قال: هذه الصلاة هي التي أرادها الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين
( لا اله الا الله محمد رسول الله )
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1993-02-07
........................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاَ وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاَ وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الغلو في الدين له تأثير سلبي في المؤمنين :
أيها الأخوة المؤمنون، هذا الدرس من نوع جديد، يتعلق بخطر شديد، له تأثير سلبي في المؤمنين، هذا الخطر الشديد هو الغلو في الدين، ويُستقَى هذا الموضوع من قول الله عز وجل:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
نهي!
﴿ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
وهذا الموضوع أيضاً مستقى من آية أخرى، يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾
[ سورة المائدة: 77 ]
آية أخرى تنهانا عن الغلو في الدين، كما أن التفريط مهلك، والإفراط مهلك، والتسيب، والتحلل، والخروج من أوامر الشرع، والتفلت من قيود هذا الدين العظيم مهلك، والغلو في الدين أيضاً مهلك.
لا بدّ من التوازن بين كليات الدين :
الله عز وجل في آيات كثيرة جداً نهانا عن المعصية، وعن التقصير، والكسل وحب الدنيا، لكن في آيات أخرى نهانا عن الغلو في الدين، معنى ذلك كما يقولون: الإسلام وسطي؛ أي يبتعد عن التطرف، لا إلى اليمين، ولا إلى اليسار، لا إلى جهة الإفراط، ولا إلى جهة التفريط، الإيمان وسطي، يعتمد على التوازن بين جوانب الإنسان، الإنسان له جانب جسمي، فالعناية بالجسم، والعناية بالصحة، والانتباه لما يدخل في الفم هذا من الدين، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ، وَأَفْطِرْ، وَقُمْ، وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً …))
[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ]
لأن جسدك يحمل نفسك، وهذا الجسد، وهذه النفس تعيش في الدنيا لمهمة خطيرة، فأساس الدين التوازن من الناحية الجسمية، والعقلية، والنفسية، فكما أن العقل غذاؤه العلم، فالقلب غذاؤه الحب، إنسان لا يشعر بحاجة إلى أن يكون محبوباً! ولا يشعر بحاجة إلى أن يحب الله عز وجل! فهو إنسان لا ينتمي إلى جنس البشرية، فلا بد من التوازن بين مطالب الجسم ومطالب الروح والعقل، ولا بد من التوازن بين كليات الدين.
1- الكلية الأولى طابعها علمي :
الدين فيه كليات، أبرزها الناحية العلمية، لأنك إذا أردت الله عز وجل فيجب أن تتعلم، لأنّ العلم طريق إلى الله عز وجل، بل هو الطريق الوحيد إلى الله.
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، بالعلم تعرف الله عز وجل، وإذا عرفته طبقت أمره، وإذا طبقت أمره سعدت في الدنيا والآخرة.
أحياناً أميل للكليات، الدين كله معرفة، وسلوك، وسعادة، جانب معرفي، وجانب عقلاني، وجانب عملي، وجانب عاطفي، فأنت بحاجة لأن تكون سعيداً، لذلك تتمرن بالقلق، والضياع، والتشتت، والشعور باليأس، والسوداوية، والخنوع، والخمول، هذه كلها مشاعر مَرَضية تأتي من الشرك والمعصية.
العوام أحياناً لهم كلمات لطيفة، الإنسان يجب أن يكون حكيمَ نفسه، القصد في الطعام والشراب، هذه الأكلة لا تناسبك فدَعْهَا، أما المعنى الأعمق عندما تستقيم ألاَ تشعر براحة نفسية؟ عندما تمشي على المنهج الصحيح ألاَ تشعر بطمأنينة؟ ألا تشعر بحب الله عز وجل؟ هذا الشعور تضحي به بسهولة من أجل معصية، ولذَّةٍ سريعةٍ؟!!
ألا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً، ورب أكلة منعت أكلات، ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة
الإيمان ليس مجرد قناعات فقط :
أنت يجب بعد فترة من الوقت أن تصبح حكيمَ نفسك، تشعر متى تسعد؟ تسعد إذا صليت الصلوات في أوقاتها، وإذا أتقنت هذه الصلوات، وإذا كان غض بصرك حازماً، وإذا كان لسانك منضبطاً، وإذا كان دخلك حلالاً، وإذا كان الإنفاق حلالاً.
موضوع الجوارح، واستقامة العين، والأذن، واللسان، واليد، واستقامته في مهنته، ودخله، وإنفاقه، وزواجه، وعلاقته ببناته، وجيرانه، وعمله، فعندما تكون مستقيماً ألاَ تجد الفرق واضحاً جداً؟ الثمرة يانعة تقطفها، وتسعد بها، فَعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً))
[مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]
هل ذقت طعم الإيمان؟ لا تظنوا أيها الأخوة أن الإيمان قناعات فقط.
حدثني رجل: طبيب ألقى محاضرة في مضار التدخين، وأطلعهم على فيلم وثائقي لسرطان الرئة، لدرجة أن الحاضرين كادوا يتمزقون خوفاً من أن يدخنوا، وبعد أن انتهت المحاضرة أشعل سيجارة، وقال: من له سؤال! هذا الطبيب عنده قناعات عالية جداً، لكنّ القناعات لا تكفي. والنبي قال:
((ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ...))
[مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ]
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 4]
فالذي يثبتك في الدين هذا التجلي لله عز وجل، لا يوجد أحد منكم قام للصلاة فبكي، وقال: لا أنسى هذه الصلاة، شعرت بسعادة لا توصف، فالذي يثبت الإنسان فضلاً عن قناعاته، وعن منطلقاته الفكرية الذي يثبته سعادته، فأنت بحاجة لجسد قوي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ......))
[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الإسلام وسطي وازن بين مطالب الجسد ومطالب النفس ومطالب العقل :
لا أكتمكم أبداً أن أثمن نعمة بعد الهدى هي الصحة، من موضوع الصحة أضطر لأدخل بموضوع دقيق يغيب عن معظم الناس.
ربنا عز وجل وضع لهذا الجسد قوانين وقواعد، هل تدري أنه من طاعة الله تعالى أن تتأدب مع هذه القوانين؟ إذا كنت معظِّماً لله فهذه قوانينه، والمؤمن يحترم قوانين الله عز وجل، فكل إنسان يهمل صحته يقول: أنا يحبني الله، أنا متوكل على الله، كل وسمِّ الله، لا يضر مع اسمه شيء، إذا كانت علاقتك بجسدك علاقة ليست علمية، بل علاقة جهل فعلى الإنسان أن يستعد لمتاعب لا حصر لها، لذلك أنا أقول لكم، وأعني ما أقول: العناية البالغة بالجسد جزء من الدين، ومعنى العناية؛ هذا الجسد آلة بالغة التعقيد، صممته يا ربّ تصميماً عالياً جداً، فالعناية بالجسد من حيث اتباع القوانين يعني أنك تطيع الله عز وجل، فنحن لا نقول: إن العناية بالصحة تطيل العمر هذا كلام الغربيين.
أقول لكم: العمر عمر، والأجل أجل، لكن هذه السنوات القليلة التي سمح لك الله أن تعيشها، فبين أن تعيشها مريضاً، وبين أن تعيشها صحيحاً، إنسان ملازمٌ للفراش ثلاثين سنة، مات بأجله، لم ينقص من أجله ولا ساعة، بل ولا ثانية، لكن الفرقَ بيِّنٌ بَيْنَ إنسان متَّعه الله بالصحة والقوة، فحركته نشيطة، ورأس مالك صحتك، وبيْن إنسانٍ ابتلاه الله طول حياته بمرض عضال.
فهذه النقطة دقيقة جداً، دعوا في أذهانكم هذه الحقيقة: أُولى النعم التي تفضل الله بها عليك الهدى، ثم الصحة، ثم الكفاية، فإذا عرفت الله عز وجل، وكنت لا تشكو شيئاً، وذا كفاية فقد حزت الدنيا بحذافيرها.
الإسلام وسطي، فقد وازن بين مطالب الجسد، وبين مطالب النفس، وبين مطالب العقل، فالعقل غذاؤه العلم، والقلب والنفس غذاؤهما الحب والقيم، والجسد غذاؤه الطعام والشراب، فالدين كما قلت قبل قليل له كليات، القسم العلمي المعرفي، طلبُ العلم، العقيدة الصحيحة أن تؤمن بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، وموجوداً، وواحداً، وكاملاً، وصفات قدرته وكماله لا حدَّ لها، أن تؤمن بأنبيائه، وبكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، هذه كليات أن تتعرف إلى أحكام الفقه المتعلقة بحياتك، فأنت كزوج، أو كزوجة، أو كتاجر، أو كموظف، أو كمحامٍ، أو كمدرِّس يجب أن تعرف الأحكام الفقهية المتعلقة بحياتك الشخصية، وبحياتك المهنية.
2 ـ الكلية الثانية عملية :
الكلية الثانية في الدين إضافة إلى هذه العقيدة الصحيحة، وهذا الإيمان المبني على دليل، وهذا البحث الدقيق، إضافة إلى الناحية العلمية لا بد من ناحية سلوكية، لا تنسوا هذه المقولة: علم بلا عمل جنون، وعمل بلا علم لا يكون.
عمل راقٍ من دون علم بالله مستحيل لا يكون، وعلم بلا عمل جنون، والله عز وجل في أكثر من مئتي آية في القرآن قَرَنَ الإيمان بالعمل الصالح.
فالكلية الأولى طابعها علمي، الكلية الثانية عملية، سلوك ضبط لسان، والسلوك نوعان؛ سلوك سلبي، ضبطت لساني، وجوارحي، وعيني، وأذني، وقدماي تحركت إلى المساجد، وإلى طاعة الله عز وجل، والشيء الإيجابي البذل في العمل، الاستقامة طابعها سلبي، والعمل الصالح طابعه إيجابي، الاستقامة تمهيد الطريق إلى الله عز وجل، والعمل الصالح حركة على هذا الطريق، هذه الناحية العملية.
3 ـ الكلية الثالثة طابعها انفعالي :
الناحية الثالثة: الناحية الانفعالية، أنت غير جسمك، وغير عقلك، لك قلب، وهذا القلب تنتابه مشاعر، أحياناً تجد نفسك مرتاحاً، أو منزعجاً، أو تجد قلبك مقبوضاً، أو تشعر بضيق، أو تشعر بملل، هذه المشاعر يجب أن تنتبه إليها، فالمشاعر لها أثر كبير في السلوك، فإذا كانت هناك مشاعر مثبّطة، فتجد نفسَك قد بَرَكَتْ، وإذا كان ثمة مشاعر محركة تتحرك، يمكن أن تكون المشاعر من نوع المحرك، بعض الصوفيين يسمونه حالاً، الله سماه السكينة، الصحابي الجليل سيدنا حنظلة قال: ماذا قال؟ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:
(( لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ]
أليس لك مشاعر متألقة؟ ألا تشعر بعد عمل صالح، وبعد أداء الصلوات، وبعد خدمة إنسان، ومجلس علم، ودعوة إلى الله، ألا تشعر بسعادة، وكأنك تملك الدنيا؟ فأنت حكيم نفسك، يجب أن ترعى الناحية العقلية، وتعتني بإيمانك، وبتصوراتك الصحيحة، وبقناعاتك، والناحية السلوكية، والناحية الانفعالية.
الغلو أنْ تأخذ أحد الجوانب فتجعله الدين كله :
أنا كنت أقول دائماً: الإيمان مرتبة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ومرتبة سلوكية، المؤمن أخلاقي، ومنضبط، وهناك منظومة قيم، تضبط سلوكه، وليس متروكاً على هواه ومزاجه، أنا لا يحلو لي إلا أن أقول عن الإنسان الكافر الفاجر: دابة متفلِّتة، يرفس، تحسن له فيسيء، يأخذ ما له وما ليس له، كالبهيمة، أما المؤمن فتضبطه آلاف المشاعر، والكلية الثالثة: الحال، الآن عنوان الدرس الغلو في الدين، فما الغلو في الدين؟ أن تأخذ كلية من كليات الدين، فتجعلها الدين كله! أن تعتقد أن الدين فقط مطالعة، وتأليف، ومعلومات دقيقة، وأفكار، فتجده متفوقاً جداً في العلم، لكن قلبه متصحر، العقل من ذهب، والقلب من حديد، نريد العقل والقلب من ذهب، فإذا كان العقل ذهباً، والقلب ذهباً فلا بأس، لكن بشرط أن يكون ذهباً خالصاً، ليس العقل ذهباً، والقلب حديداً صدئاً.
وقد ورد في الأثر: "إن القلوب لتصدأ، قيل: وما جلاؤها؟ قال: ذكر الله".
فذكر الله عز وجل يطمئن القلب، قال الله عز وجل:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
[ سورة طه: 14]
وآية ثانية قال:
﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد: 28]
فأنت إذا بحثت عن سعادتك النفسية وجدتَها في الصلاة، وفي الذكر، وفي تلاوة القرآن، والتسبيح، والحمد، والاستغفار، هذا جانب من جوانب الدين.
فأول جانب في الدين الجانب العلمي، والجانب الثاني هو الجانب الانفعالي الشعوري، والثالث سلوكي، الغلو: أنْ تأخذ أحد الجوانب فتجعله الدين كله.
الغلو معناه مجاوزة الحد والحد هو النص الشرعي :
بعضهم يرى أن صفاء القلب هو الدين كله، لذلك معلوماته الفقهية ضعيفة جداً، وفيها يرتكب أخطاء كبيرة، وليس معه دليل لكن يشعر بالصفاء، فهذا غلو في الدين، والذي اعتنى بمعلوماته، وبالأفكار، والدراسات صار طليق اللسان، لكن في قلبه صدأ، وفي عمله كسل، هذا غلو في الدين، أن تحل كُلِّية من كليات الدين محل الدين كله، فما قولكم بمن يأخذ فرعاً من فروع الدين ويجعله الدين كله؟ هذا أشد أنواع الغلو، أن تأخذ كلية من كليات الدين، وتجعلها الدين كله، هذا غلو لا شك فيه، أما أن تأخذ فرعاً صغيراً من فروع الدين، وتجعله الدين كله فهذا غلو، وأيُّ غلو، نحن مطلوب منا التوازن، عندما ترجح جانباً على جانب، وتضخم جانباً، وتصغر جانباً فقد وقعت في الغلو وأنت لا تدري، لذلك أجمل كلمة قالها بعض العلماء السابقين: كان التصوف مسمى بلا اسم في عهد رسول الله، التصوف يعني معرفة، ومحبة، وذكر لله، ورياضة للنفس، فالصحابة الكرام كانوا في أعلى درجات التصوف، لكن لم يكن اسمهم صوفيين، بل أصحاب رسول الله، كانوا في القرآن مؤمنين، ثم أصبح التصوف اسماً بلا مسمى، وبلا مضمون، نحن نريد المضمون.
الغلو معناه مجاوزة الحد، ما هو الحد؟ هو النص الشرعي، لماذا؟ لأنك عبد جاءك خطاب من الله عز وجل، مِن خالق الكون، والله عز وجل قال:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
[ سورة الأحزاب: 36]
أهمية الصحة النفسية :
إذا ملكتَ آلة غالية الثمن، أو كان دخلها كبيراً، وهناك أجهزة تدرُّ أرباحاً طائلة، إذا كان هناك جهاز كومبيوتر لتحليل الدم، كل كبسة زر بألف ليرة، يظهر على الشاشة سبعة وعشرون تحليلاً، وبزرٍّ آخر يُطبعون على ورقة، واللهِ أمرٌ سهلٌ، يقف في عيادتك خمسين شخصاً ينتظرون، وكل زبون أخذت له نقطة دم، وحلَّلتها، وبزرٍّ واحدٍ إذا ثمانية وعشرون تحليلاً يظهر، فإذا كان الجهاز من هذا النوع غالياً جداً، ودخله كبير جداً، ألست حريصاً على سلامته، وصيانته، وحريصاً على أن يعطيك أعلى مردود بأقلِّ جهد؟ طبعاً، لذلك إذا كان الجهاز غالياً عليك، ودخله كبير، فأنت حريصٌ حرصاً بالغاً على سلامته، فتجد كلما اشترى الإنسان شيئاً جديداً، آلة حديثة، فأوَّلُ شيء يطلبه (الكتالوج) نشرة التصنيع، أرجو أنْ تترجموه، ترجموه، يخاف أن يستعمله بالخطأ، لماذا عندك حرص شديد؟ لأن الآلة غالية عليك، وصعب أن تعوِّضها، وإذا تَلِفَتْ صَعُبَ تصليحها، لا أحد يفهم في إصلاحها، سيخربونها، لا يوجد مهندسون يفهمون، والكل يجرِّب، يقول: أريد تطبيق الوكالة، سأعتني باستعمالها، أنت أغلى من الآلة بمليون مرة، فإذا شعرت بقيمتك قالوا: مَن عرف نفسه عرف ربه، إذا كانت لك نفس يمكن أن تُسحق هذه النفس، ويمكن أن تتعذب، درسنا في الجامعة في الصحة النفسية مرضاً اسمه الهستريا، كل الناس يقولون: فلان مهستر، هذه لها استعمال عامي، مجنون، أو نصف مجنون، الهستريا ليس له علاقة بالجنون إطلاقاً، شلل عضوي لأسباب نفسية. نضرب بعض الأمثلة: إنسان اعتدى على فتاة في بيت أبيها، كان مريضاً، وهو يقدم خدمات لأبيها، شعر بوخز الضمير، أدى الأمر به إلى شلل في يده، المرض دقيق؛ تعريفه: شلل عضوي، ليس له أسباب عضوية، الأعصاب ممتازة، والتروية جيدة، كل ما يتعلق بالعضو مئة بالمئة، لكن هناك شلل أسبابه الشعور بالذنب، عقدة الذنب، وخز الضمير، هذه هي الفطرة، فأنت عندما تسير على الصراط المستقيم تشعر براحة، وهي ثمينة جداً، وهذه الراحة في بعض البلاد مفقودة، يقول: نسب الانتحار عالية جداً، لماذا؟ بسبب الشعور بالكآبة، المرض الخطير في العالم مرضُ الكآبة، وكل شيء عنده، ومع ذلك تنتابه كآبة، وفي بلدنا يوجد منه، تجد المال متوافراً، ثلاث سيارات تقف على الباب، للزوجة سيارة، ولكل ابن سيارة، وله سيارة، وبيت في المصيف، وعلى البحر بيت، لماذا هو حزين إذاً؟ انقباض نفسه تحاسبه، لو لم تتلقَ علماً، لو لم تدرس ديناً، لو لم تسمع خطباً ففطرتك عالية، عندما تخرج عن فطرتك تشعر بوخز الضمير، تسميه شعور بالكآبة، أحياناً إلى انفصام شخصية، أسبابه الوخز، واللوم الداخلي الشديد، فيهمنا الصحة النفسية، وسلامة النفس، والجسد، والعقل.
المؤمن إنسان عرف نفسه وعرف مهمته في الحياة :
اسمع إلى ما قاله الله عز وجل:
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[ سورة طه: 123 ]
لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، هدى الله عز وجل غذاء للعقول، بالتعبيرات الدارجة المؤمن شيء كبير، هل هو شخص عادي؟ هو أمة، وحقق الهدف من وجوده، المؤمن إنسان عرف نفسه فعرف ربه، عرف مهمته في الحياة، يمشي على بصيرة.
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
[ سورة يوسف: 108 ]
يمشي على منهج، على دستور.
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
[ سورة طه: 123 ]
الآية الثانية:
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 38 ]
شعور الندم يفوق كل شعور.
قصة أصحاب الجنة الذين حدثنا الله عز وجل عنهم :
أصحاب الجنة الذين حدثنا الله عز وجل عنهم قال:
﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ*أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ﴾
[ سورة القلم: 21-22 ]
حدثنا الله عن هؤلاء كيف أرادوا أن يمنعوا حق الفقير.
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ﴾
[ سورة القلم: 19-20 ]
في اليوم الثاني انطلقوا إلى بساتينهم ليقطفوا ثمارها.
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ﴾
[ سورة القلم: 26 ]
هذا ليس بستاننا، البارحة تركنا بساتيننا مليئة بالخير، فأين الأشجار؟ لا شجر، ولا ثمر، ثم تأكدوا أن هذه بساتينهم، قال تعالى:
﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾
[ سورة القلم: 27-29 ]
قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ ﴾
[ سورة القلم: 33 ]
شعور الندم شعور صعب جداً.
النص الشرعي القطعي الثبوت على الإنسان أن يفهمه وفق علم الأصول واللغة العربية:
الإنسان أحياناً يخسر، وصفقة الخسارة مؤلمة جداً، يقول: سنتان تعبنا فيهما، واستوردنا، شحنا، وبعنا، واستقرضنا، ثم لم نحصّل ثمن البضاعة، خسرنا مليونين، كثير من الناس ممّن اشترى مركبات، ثم انخفض سعرها، بعض المكاتب قال: خسرت في شهر أربعة ملايين! الخسارة مؤلمة جداً، لا يعرفها إلا مَن ذاقها، إذا سألت تاجراً عن الخسارة تخرج منه شهقة من أعماق أَعماق قلبه، قد يخسر الإنسان مالاً، لكنه يعوضه فيما بعد، وكثير من التجار أعلنوا إفلاسهم مرتين، وثلاثاً، ثم عادوا, أصبحوا مِن أصحاب الملايين، أما الآخرة فالخسارة أبدية، ولا يعقبها ربح، إنها خسارة محققة.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
[ سورة الكهف: 103-104 ]
الغلو مجاوزة الحد، والحد هو النص الشرعي، كلام الله، وما صح من كلام رسول الله، هذا النص الشرعي ينبغي أن تفهمه لا على مزاجك، ينبغي أن تفهمه وفق قواعد علم الأصول، ووفق قواعد اللغة العربية، فالنص الشرعي القطعي الثبوت؛ سواء كان قرآناً، أو حديثاً صحيحاً، يجب أن تفهمه وفق قواعد علم الأصول وقواعد اللغة العربية، وإنّ مجاوزة هذا النص هو الغلو في الدين.
لذلك أكثر الغلاة في الدين رأيُهم هو الأصل، فالنص الذي يغطي غلوهم يتمسكون به، ويرددونه، ويسلطون عليه الأضواء، والنص الذي ينقض غلوهم يهملونه، فإذا ذُكِّروا به صرفوه إلى غير المعنى الذي أراده الله عز وجل، فأن تختار من النصوص ما يروق لك، وأن تكثر من ذكره، وتسلط عليه الأضواء، وتهمل نصاً آخر فهذا أيضاً غلو في الدين، أن تأخذ شيئاً بلا دليل، لأنه راق لك فهذا غلو في الدين، أن ترفض شيئاً معه أقوى دليل لأنه لم يَرُقْ لك فهذا غلو في الدين.
الغلو في الدين نوعان؛ غلو اعتقادي وهو الأخطر وغلو عملي وهو أقل خطراً :
شيء آخر في الغلو، الغلو في الدين أيها الأخوة نوعان: نوع خطر جداً، وهو النوع الاعتقادي. عقيدة تخالف ما جاء في القرآن الكريم هذا غلو، أو انحراف، أو خروج عن قواعد الدين، فأخطر شيء في حياة الإنسان أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل تصوراتي صحيحة؟ هل نظرتي صائبة؟ هل رؤيتي صحيحة؟ هل اعتقادي صحيح؟ هل إيماني صحيح؟ أما إذا وجد في إيماني جانب غير صحيح أو تصورٌ موهوم، وإذا ضخمت، أو قلَّلت، أو أغفلت، أو خرجت فهذا كله غلو في الدين، ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾
[ سورة النساء: 171 ]
وفي حديث صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ:
((الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ: أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ))
[سنن ابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ]
الغلو الاعتقادي خطير! من أبرز تعاريفه أن تأخذ فرعاً من فروع الدين، وتكبره، وتضخمه حتى تجعل منه الدين كله، الآن لو تتبعت الفرق الإسلامية والجماعات، فكلُّ فرقة أو جماعة أخذت جانباً صغيراً، وضخمته، وجعلته هو الدين، هذا هو الغلو، والصواب في هذا التوازن، والوسطية، والاعتدال، والحق دائماً وسطٌ بين طرفين.
الغلو الاعتقادي أيها الأخوة خطير، لماذا؟ لأن المغالي على خطأ وهو يظن أنه على صواب، المغالي لا يتوب من غلوه، إذا كان الغلو اعتقادياً فهو كما وصفه الواصفون: لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فمِنَ الناس مَن يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا غافل فنبهوه، منهم من لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه، ومنهم من يدري ولا يدري أنه يدري فهذا شيطان فاحذروه، فالذي لا يدري ولا يدري أنه يدري فهذا مُغالٍ في الدين، أما الغلو العملي فهو أقل خطراً.
أحياناً وسوسة في الوضوء، فيعيده مرتين أو ثلاثاً، وسوسة في الطهارة، وسوسة في بعض الأفعال، هذا غلو، لكنه عملي سهل، أما أخطر غلو في الدين فهو الغلو الاعتقادي، تأخذ فرعاً، وتضخمه، أو تغفل كلية من كليات الدين، أو تغفل جانباً من جوانب الدين.
أسباب الغلو :
لو سألنا هذا السؤال: ما هي أسباب الغلو؟ مَن يقترح سبباً وجيهاً لأسباب الغلو؟ أشد الأسباب براءة الجهل، يفعل الجاهل بنفسه ما لا يستطيع أن يفعله به عدوه، الجهل علاجه العلم، فلا طريق إلى الله إلا بالعلم، الجهل أحد أَوْجَه الأسباب البريئة في الغلو، فالجاهل يجب أن يتعلم، لكن المشكلة أحياناً أن الإنسان جاهل، لكن يظن أنه عالم، فهذا يرفض أن يتعلم، لذلك قالوا: تعلّموا قبل أن ترأسوا، فإن ترأستم فلن تعلّموا، الجهل علاجه العلم.
سيدنا عمر بن عبد العزيز ناظر ألفين من الخوارج، وفي مجلس واحد رجعوا عن خروجهم، وعادوا إلى الصراط المستقيم، فالإنسان إذا اعتراه الجهل، وقاده إلى الغلو، وإذا لم يصغِ إلى النصيحة، يبقى جاهلاً، ويموت جاهلاً متلبساً بغلوه.
غلو آخر أسبابه غير الجهل، هو الهوى، الإنسان أحياناً تكون عنده رغبة في شيء دنيوي، فيجرُّ النصوص لصالحه، في الإنسان انحراف، وفيه هوى معين، ومطمح معين، وله دنيا معينة، فتجده يجرُّ النصوص كلها لمصلحته، هذا أيضاً غلو في الدين. قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً فارغاً فتمكـــنا
* * *
الإنسان عندما يفتح أذنه لكل النوافذ يتلقى هواء نقياً، فالغلو أساسه الجهل، أو الهوى وهناك غلو أساسه غلو الطرف الآخر، لكنه قليل.
نحن كمؤمنين يجب أن نعرف أن في الدين كليات؛ الكلية الأولى الناحية العلمية، والكلية الثانية الناحية السلوكية، والكلية الثالثة الناحية الانفعالية، تسميها سكينة فهو اسم صحيح، أو حال صحيح، والحال كما تعرفون ثمرة من ثمار طاعة الله عز وجل، أنا ذكرتُ لكم قصة مرتين أو ثلاثاً: أخ كريم على مشارف الزواج والدخول، وله أخ غير متزوج، وهو في أمسِّ الحاجة إلى الزواج، والبيت موجود، والمرأة مناسبة لهذا الأخ، لكن هذا الأخ ليس في يديه شيء، فماذا فعل؟ حضر درساً من دروسنا، وكان محور الدرس: أن أعظم عمل يفعله الإنسان أن يُدخِل على قلب أخيه المؤمن سروراً، فهذا الأخ الكريم باع غرفة النوم، وعرسه بعد عشرة أيام، واشترى غرفتان متواضعتان، وقام بصيانتهما، ورتب بعض الأمور، وزوج أخاه، ثم يذكر هذا الأخ أنه انغمس في سعادة ما بعدها سعادة.
الإنسان لن يكون صاحب حال إلا إذا كان له عمل كالجبال :
نقطة دقيقة: فرق كبير بين أن تقول: ألف مليون، وبين أن تملكها، فالحديث عن الحال سهل، أما أن تكون صاحب حال فالقضية غير سهلة، لن تكون صاحب حال إلا إذا كان لك عمل كالجبال. العمل العظيم: التضحية والمؤاثرة...
كان أحد الأخوة راكباً سيارته، قادماً إلى الشام، فقال: وجدت شخصاً واقفاً بمدينة دُمَّر، معه امرأته، ويحملان طفلاً، وكأنهم غرباء عن هذه البلدة، فتوقف وسألهم: أين تريدون أن أوصلكم؟ وهذا في أثناء أحداث لبنان، الرجل والزوجة والطفل حرارتهم مرتفعة فأخذهم إلى طبيب مناوب في المشفى من أجل الإبر، ثم اشترى الدواء، وبعد أن قضى الخدمات حتى الساعة الرابعة صباحاً أقسمَ بالله أنه بقي أسبوعين يشعر بسعادة لا توصف، فالحال مقياسه شيء ثمين جداً، فقد يكون دعوة، وقد يكون حالاً حقيقياً، الدعوة أن تتحدث عن الحال، أما الحال الحقيقي أن تكون مستقيماً استقامة تامة، وتضحي بشيء ثمين في سبيل الله عز وجل، فأول ثمن أنْ يعود الله عليك بالتجلي، وهذا ما تسميه الثواب.
فما معنى الثواب؟ من فعل ثاب أي رجع، إذا قدمت لله شيئاً عظيماً يرجع عليك حال طيب، فهذا الحال هو جانب من الدين، والسلوك جانب، والإيمان الصحيح جانب، فثمّة ثلاثة جوانب، فإقامة هذه الجوانب إقامة متوازنة هو الوضع الصحيح، أن تأخذ جانباً وتحله محل كل الجوانب فهذا غلو، وأن تأخذ فرعاً وتضخمه لتحله محل الأصل، فهذا أيضاً غلو في الدين.
فضل صلاة الفجر في المسجد :
بقي موضوع آخر سوف نعالجه فيما تبقى من الوقت: نحن والفضل لله عز وجل في صلاة الفجر يقرأ أخونا الكريم الإمام ـ جزاه الله عنا كل خير ـ في صلاة الفجر القرآن الكريم كله في عام، ويقرأ إن شاء الله تعالى القرآن كله في رمضان، وقد ورد فضل صلاة الصبح في المسجد جماعةً فضلٌ كبير، فعَنْ جُنْدَبِ بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ....))
[مسلم عَنْ جُنْدَبِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ]
فما معنى في ذمة الله؟ أي في حفظ الله، وفي الأثر: ابن آدم لا تعجز عن ركعتين قبل الشمس أَكْفِك النهار كله، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 6 ]
سبب هذه الكلمة أننا إن شاء الله تعالى يوم الجمعة نختم القرآن الكريم في صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء، وثمة رغبة أن نقيم صباح الجمعة مولداً بسيطاً، حيث نختم القرآن الكريم، وندعو الله عز وجل، فلعل سبحانه يهدي أخواننا الكرام أن يتشجعوا لينضموا لصلاة الفجر، فاليوم من فضل الله ضاق بنا المكان، أربعة صفوف، وازدحام شديد، فإذا استمر هذا الإقبال سوف نضطر غير آسفين إلى أن ننتقل إلى الحرم الأساسي، فأنتم مدعوُّون صباح الجمعة إلى احتفال بسيط، بمناسبة ختم القرآن الكريم الذي قرِئ كله بفضل الله عز وجل في صلاة الفجر، لكن هذا يقودنا إلى شيء: عندما تسير في طريق الإيمان فلك جلسة خاصة مع الله، أساسها الصلاة. صلاة الفجر في المسجد لا تعدلها صلاة أخرى، وذاقها من عرفها، أو عرفها من ذاقها، صلاة الفجر في المسجد:
((مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ))
[ البخاري عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ]
الله عز وجل لا يحده مكان ولا زمان فهو خالق المكان والزمان :
البيت له طبيعة خاصة، السرير، واللحاف، والأولاد، والزوجة، وغرفة النوم، وأشياء كثيرة جداً تصرفك عن الذكر وعن الصلاة، فتصلي في البيت، لكن الصلاة في المسجد لها طعم خاص، والصلاة في البيت لها طعم آخر، فالذي يريد أن يصلي صلاة يشعر فيها بقرب من الله عز وجل فليصلِّ الفجر في جماعة، سِرْ نحو الله في الليل، ولا تخشَ وحشته، فالأنس في طيب ذكره سبحانه، هؤلاء الذين يمشون إلى بيوت الله في الليل لهم عند الله أجر كبير، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحق على المزُور أن يكرم الزائر.
مرة كنت سألتقي مع شخص فسألته متى تملك الوقت؟ قال: باكراً، قلت له: متى؟ الساعة التاسعة؟ قال: قال الساعة السادسة في المكتب! هذا غير معقول، هل هناك مكتب يفتح الساعة السادسة؟ قال: كنت صغيراً، وكان والدي يوقظني قبل الفجر بساعة، وأتوضأ، وأصلي قيام الليل معه، ثم أذهب إلى المسجد، فهذه العادة بقيت فيّ حتى الآن، فأنا أبدأ عملي الساعة الخامسة فجراً بالمكتب، قلت له: شيء جميل رحم الله أبيك الذي غرس فيك هذه العادة الطيبة، فإذا الإنسان صلى الفجر في جماعة، وذاق طعم القرب في المسجد، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
هذه لا تفهموها فهماً مادياً فإنّ الله عز وجل لا يحدّه مكان، ولا يسأل عنه أين هو؟ فهو خالق المكان، ولا متى كان؟ فهو خالق الزمان، لكن معنى النزول التفضل، ومعنى المجيء، قال:
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صفّاً ﴾
[ سورة الفجر: 22 ]
هذه الآيات وقف الناس منها مواقف أربع موقفان صحيحان وموقفان منحرفان :
قال تعالى:
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
[ سورة الفتح: 10]
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾
[ سورة المجادلة: 1]
له سمع؟ سميع أي عليم، هذه الآيات وقف الناس منها مواقف أربعة: موقفان صحيحان، وموقفان منحرفان، أول موقفٍ موقفُ التفويض، فالسلف فوضوا إلى الله تفسير هذه الآيات، وموقف الخلف التأويل، قال: مجيئه أيْ مجيء أمره، ونزوله تفضله، ويده قوته، وسمعه وبصره علمه. وأما الذين جسدوا فهؤلاء ضلوا، وأما الذين عطلوا فقد ضلوا أيضاً، عندنا أربعة اتجاهات، التأويل، والتفويض، والتعطيل، والتجسيد، التعطيل والتجسيد في آيات الذات انحراف خطر، والتأويل والتفويض موقف سليم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))
[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
الذين ذاقوا طعم القرب إذا رجع العبد إلى الله نادى مناد في الأرض: أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، هذا شيء لطيف جداً، ذاق طعم الإيمان َمن اصطلح مع الله.
أتمنى على كل أخ كريم أن يصلي في مسجد قريب منه، بإمكانه أن يلزم الجماعة في الفجر، وغالباً الفجر فيه روحانية خاصة، ولا تنسوا قوله تعالى:
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾
[ سورة المزمل: 6 ]
ما ينشأ لنفسك من تجلِّيات في الليل لا يكون في النهار.
التوازن بين العمل والصلة وبين الذكر والطاعة :
هناك قول يقول: إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل، وسيدنا عمر بن الخطاب كان له عامل على أذربيجان، هذا العامل أرسل رسولاً مع هدية ثمينة، فوصل الرسول المدينة في منتصف الليل، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين، فتوجه إلى المسجد، وفي المسجد سمع رجلاً يناجي ربه ويقول: هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها، فقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عمر، قال: يا سبحان الله! ألا تنام الليل يا أمير المؤمنين؟ أنا كرهت طرق بابك خشية أن أوقظك، فقال: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي.
سيدنا داود رجّح الصلة بالله على العمل الصالح فعاتبه الله، سيدنا سليمان رجح العمل الصالح على الصلة فعاتبه الله، فلا بد من التوازن بين العمل والصلة، وبين الذكر والطاعة، وإنّ التوازن مطلوب، فإذا تمكن الإنسان أن يجعل لنفسه جلسة مع الله صباحاً تقرأ فيها بعض القرآن الكريم؛ خمس صفحات، أو عشر صفحات، فإن في ذلك فضلاً كبيرا، لقول الله عز وجل:
﴿ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾
[ سورة الإسراء: 78 ]
يمكن أن تقرأه، وتقول: لا أشعر بشيء، وهذا ممكن! هذا امتحان، المؤمن إذا كان حريصاً أن يدخل البيت يطرق الباب، في العيد معه بطاقات، يريد وضع بطاقة، فيضرب ضربة واحدة، ويضع البطاقة، ويذهب، لا وقت له ليدور على كل البيوت، إذا لم تكن حريصاً على دخولك إلى البيت ترنّ الجرس ضربة واحدة، أما إذا كان هناك حرصٌ شديد تصير ملحاحاً.
أخلقْ بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
* * *
أحياناً يمتحن الله صدقك فيسد عليك الأحوال، تقرأ القرآن فلا شيء يغلقه، ويقوم مِن الصفحة الأولى، اقرأ خمس صفحات حتى لو لم تشعر بشيء، في اليوم الثاني لعلك تشعر بشيء. حدثني أخ ذهب إلى العمرة، يظن نفسه أنه يجب أن تكون له أحوال، فقال: وصلت المدينة، فدخلنا المقام الشريف، ولم أشعر بشيء! أعوذ بالله، وكأنني أدخل مسجداً في الشام، رسول الله أمامه! قال: لم أبكِ، ولم أتأثر، فأصابه انكسار، وعاد إلى الفندق مكسوراً كاليتيم، أين أحواله، وإقباله، وطريقه، وأذكاره، ووِرده؟ في اليوم الثاني تحسن الحال قليلاً، في اليوم الثالث تفضل عليه الله.
لا يجب على الإنسان أن ينسحب من أول صدٍّ، فإنّ الله عز وجل عزيز، ولا يقبلك بسهولة، أنت طالب ودِّ الله، والمؤمن يخطب ودَّ الله عز وجل، أحياناً إذا خطب الإنسان بنتاً، وقيل له: ليس لك نصيب، يوسّط لهم أقرباءهم، أو يبعث جهة ثالثة ورابعة يرى من يمون عليهم، يحسن الحسن، من أجل فتاة يقوم بعشرات المحاولات، أليس من الأكمل أن تكون قريباً من الله عز وجل، وأن تبذل بعض المحاولات؟ وقد ورد في الأثر: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها، علي أن أصلي الفجر في وقته، وفي جماعة، وأن أخشع في الصلاة، فإذا تجلى الله على قلبي في حال، معنى ذلك أن الله أكرمني اليوم، فالأحوال نفحات، فهيئ نفسك لها: ألا فتعرضوا لها.
لاحظ التاجر يهيئ البضاعة، ويقول: عندنا موسم لا يعلم ما سيكون فيه، لكن يهيئ نفسه، لو طلب مني بضاعة جاهزة، عندنا بضاعة، وعندنا في المستودعات، وأنا مهيأ نفسي من أجل البيع، إنسان لم يهيئ نفسه لن يكون هناك بيع، لا توجد بضاعة، هذا كلام غير تجاري.
الذكر والدعاء :
أرجو الله عز وجل أن نعتني جميعاً بمجلس صباحي، والأولى أن يكون في المسجد، هذا المجلس يتضمن صلاة الفجر، وتلاوة القرآن، وشيء من الذكر، تحب ذكر اسم الله المفرد، هناك آية تؤكد ذلك، أن تقول: الله اَلله الله، هل هناك آية هكذا؟ قال تعالى:
﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ﴾
[ سورة المزمل: 8]
اسم الله الأعظم هو الله، فإذا قلت: الله اَلله فهذا ذكر، وهناك ذكر الحمد، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والدعاء ذكر، والثناء دعاء، فهل عندكم دليل على أن الثناء دعاء؟ سيدنا يونس قال:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
أثنى على الله:
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
[ سورة الأنبياء: 87]
لم يسأل سؤالاً، فالثناء دعاء، والحمد، والتسبيح، والاستغفار، والصلاة على النبي ذكر.
﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
[ سورة العنكبوت: 45 ]
فشيء من الذكر، وشيء من التلاوة والصلاة، وإذا أضفت التفكر في الكون هذا طريق سريع لله عز وجل، هذه الجلسة إن كانت في الفجر أطمح إذا حضر أخواننا إلى الفجر أنْ نقوم ببعض الذكر بعد الصلاة، وشيء من التفكر والتلاوة، حيث يشعر أنه قضى هذه الحصة في المسجد، هذا شيء من طموحي إن شاء الله، ووجدت إقبالاً شديداً على صلاة الفجر، في العادة أكثر المساجد سبعة أشخاص أو ثمانية، ومن فضل الله عندنا أربعة صفوف وازدحام، ويمكن أن ننتقل إلى الحرم بعد فترة، على كلٍّ ذاق طعم القرب مَن صلى الفجر في جماعة، وثمة أحاديث صحيحة تؤكد أن صلاة الجماعة تعدل صلاة المفرد بسبع وعشرين ضعفاً.
ملخص الدرس :
ملخص الدرس: التوازن يعني أن تعتني بعقلك، وبقلبك، وبجسدك، وتتمتع بعقيدة صحيحة، وسلوك مستقيم، وحال طيب، إذا ركّزت على الحال فقط وقعتَ في الغلو، أو ركزت على الاستقامة، أو على الفكر وقعت في الغلو، تأخذ فرعاً تجعله هو الدين فهذا غلو، تأخذ جزءاً فتجعله الكلَّ فهذا غلو، هذا الذي أتمنى على الله عز وجل أن يكون في قناعاتكم جميعاً، على كل نحن في رمضان بفضل الله، وهذه السنة الخامسة نتلو في صلاة التراويح والفجر القرآن كله، فالإنسان له مناسبة أن يستمع لتلاوة القرآن بصوت حسن، مع أحكام تجويدية طيبة، أن يستمع لها بشكل متسلسل، في رمضان إن شاء الله عندنا درس بعد الفجر، ودرس بعد التراويح، وسيكون الدرس بطريقة فيها فاعلية.
في التربية والتعليم أسوأ طرق فيها هي الإلقاء، أما السؤال، والجواب، والحوار، وطرح الأسئلة يضفي فعالية لدى المستمعين، ويرسخ المعلومات، فأنت كمستمع يمكن أن تشرد، أما كمسؤول فعليك أن تجيب، فنحن في الشهرين السابقين كنا نقرأ جزءاً، ونهيئ أسئلة نريد منه إجابة، هذه الطريقة لاقت ارتياحاً شديداً عند أخواننا الكرام، فصار الأخ يصلي وكلُّه يقظة، أنه سوف يُسأل، فتابع القرآن، والدليل:
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
ماذا قال الإمام؟ واللهِ لا أذكر! الآن صليت العشاء، ماذا قرأ مِن السور؟ واللهِ لا أذكر، هذه مشكلة كبيرة جداً، أي لم يعلم ما قاله الإمام، والله عز وجل قال:
﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
الإنسان الذي لا يعلم ما يقول في الصلاة فهو في حكم السكران :
النبي قال:
(( ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها ))
[ ورد في الأثر ]
إذا لم يعلم الإنسانُ ما يقول كان في حكم السكران.
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾
[ سورة النساء: 43 ]
إذا قرأ الإنسان الفاتحة بشكل صحيح قال:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
[سورة الفاتحة: 5-6]
طلب:
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
[سورة الإسراء: 53]
سألته أن يبين لك الصراط المستقيم، فجاءك الجواب في آيات الركعة الأولى، ركعت خاضعاً، وسجدت مستعيناً، فوجدتَ التكامل، قرأت الفاتحة، أعلنت عن حمدك، وخضوعك، وإيمانك، وسألت الله الصراط المستقيم، فجاء الجواب في آيات الركعة الأولى، فركعت خاضعاً، وسجدت مستمداً العون من الله، هذه ركعة أولى، فإذا قرأت الفاتحة في التراويح كما أرادها الله عز وجل، واستمعت إلى آيات الله تتلى عليك، وبعدها ركعت خاضعاً، وسجدت مستعيناً، فقد اقتربت من الصلاة التي أرادها الله عز وجل.
بعض الأخوة صلوا في المدينة المنورة وراء إمام، فحدثوني أنهم شعروا بسعادة لا توصف! حتى إن أحدهم قال: هذه الصلاة هي التي أرادها الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين
( لا اله الا الله محمد رسول الله )
"قرة أعين"- موقوووووووف
- عدد المساهمات : 303
تاريخ التسجيل : 11/04/2015
رد: @@ الغلو في الدين @@
ماشاء الله درس جميل استفد منه كتب الله اجر كاتبه وناقله ورزقهم الجنه
بن الشام- ضيف كريم
- عدد المساهمات : 26
تاريخ التسجيل : 24/06/2015
مواضيع مماثلة
» غزوة اللواء 26 وصد الهجوم على قرية بيشير (اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين)
» الحقيقة اللتي يخفيها التاريخ والشيوخ عن صلاح الدين الايوبي | تقرير عن هوية صلاح الدين الايوبي
» لا حل إلا في الغلو (رؤيا تحكي ما يجري هنا في ملتقى الملاحم واشراط الساعة) !!!
» مافي حل الا الغلو...
» الغلو في انتظار المهدي
» الحقيقة اللتي يخفيها التاريخ والشيوخ عن صلاح الدين الايوبي | تقرير عن هوية صلاح الدين الايوبي
» لا حل إلا في الغلو (رؤيا تحكي ما يجري هنا في ملتقى الملاحم واشراط الساعة) !!!
» مافي حل الا الغلو...
» الغلو في انتظار المهدي
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات الدعوية ومنبر القرآن وعلومه و الحديث والفقه :: الحوار الاسلامي و المذهبي العام والفتاوى المعاصرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى