الردع والتبكيت للمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
الردع والتبكيت للمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت
(شعر الردع والتبكيت للمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فقد اطلعت على رسالة صغيرة الحجم ، عظيمة الإثم والوزر، كتبها رأس من رؤوس الخوارج في هذا الزمان ألا وهو المدعو : "أبو محمد المقدسي عصام برقاوي" سماها: "كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت".
(مميز فلَمَّا اطلعت عليها وجدت فيها جهلاً مطبقاً بالتوحيد والشرع ، وتخبطاً واضحاً في التأصيل والتقعيد، وخلطاً عجيباً في المصطلحات والمفاهيم ، وتكفيراً للدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ-. )
كل ما سبق الإشارة إليه من جهل وتخبط وخلط كتبه ذاك المخذول باسم الدين والشريعة ، ويالها من قالة شنيعة يصدق عليها قول الله –جلَّ وعلا-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}.
وتذكرت قول الله -عزَّ وجلَّ- : {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}.
وقال الله عن مشركي قريش: {إذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب}.
وقال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً{103}الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
فامتثالاً لأمر الله -عزَّ وجلَّ- ، ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
في نحو قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
وقوله -عزَّ وجلَّ-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} الآية.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((الدين النصيحة-ثلاثاً-)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم)).
أكتب هذا الردع والتبكيت ، والكشف والإيضاح لجهالات وشبهات هذا الخارجي المارق المعاند أبي محمد المقدسي.
والله أسأل أن يسدد قلمي وقولي، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه ، وأسأله تعالى "أن يفتح بهذه البيان والتوضيح آذاناً صماً ، وأعيناً عمياً ، وقلوباً غلفاً إنه ولي ذلك والقادر عليه , وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير".
(مميز وسيكون الردع والتبكيت كما يلي: )
(مميز الفصل الأول: ) معنى الطاغوت وأنه يشمل الكافر ورؤوس الضلال والبدع.
(مميز الفصل الثاني: ) معنى الكفر بالطاغوت وكيفية تحقيقه وبيان تلبيسات المقدسي في ذلك.
(مميز الفصل الثالث: ) معنى الدين ، وبيان تلبيس المقدسي في ذلك.
(مميز الفصل الرابع: ) معنى شرك الطاعة وبيان جهالات وتلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل الخامس: ) التشريع بين معناه في الشرع ومعناه في لغة العرب ومصطلح الناس والرد على تلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل السادس: )أحوال الحكم بغير ما أنزل ، وتفصيل ذلك والرد على تلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل السابع: ) بيان تلبيس المقدسي في قصة تبديل اليهود لحكم الزنا.
(مميز الفصل الثامن: )بيان حقيقة الاستهزاء الذي هو كفر بالله العظيم وبيان تلبيس المقدسي.
(مميز الفصل التاسع: ) حكم إقامة الأحلاف والمعاهدات مع المشركين وبيان جهالات المقدسي.
(مميز الفصل العاشر: ) حكم موالاة المشركين وتفصيل ذلك والرد على جهالات المقدسي.
(مميز الفصل الحادي عشر: ) التفريق بين العقوبة على حق الله وحق عباده ليس من باب مساواة أو تفضيل حق العباد على حق الله ، والرد على جهالات المقدسي.
(مميز الفصل الثاني عشر: ) العذر بالجهل وبيان تخبط المقدسي فيه.
(مميز الفصل الثالث عشر: ) بيان جهالات متفرقة في كلام المقدسي ومن ذلك كلامه على الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- .
(مميز الخاتمة . )
وفي خاتمة هذه المقدمة أقول للمقدسي مذكراً له بما قال في آخر رسالته البتراء: [ بيننا وبينكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم لا نقبل حكماً غير ذلك إيتونا منه بدليل وبرهان ينقض ما قلناه وستجدوننا إن شاء الله تعالى أسعد الناس به وأول من يرجع إليه {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.].
(مميز وها أنا آتيك بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة وكلام أعلام الأمة من أهل السنة ، مبيناً بطلان رسالتك ، وكابتاً لما فيها من الخزي والضلال فما عليك إلا الرجوع والتوبة ، وكتابة براءة مما خطته أناملك من العقيدة الفاسدة ، والأحكام الجنكيزية الباطلة. )
والله الموفق لا رب سواه .
(شعر الفصل الأول: معنى الطاغوت وأنه يشمل الكافر ورؤوس الضلال والبدع. )
(شعر تعريف الطاغوت )
اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الطاغوت ، ففسره أكثرهم ببعض أفراده وليس على سبيل الحصر .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في تيسير العزيز الحميد(ص/49) : [(مميز الطاغوت : مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد وقد فسره السلف ببعض أفراده)..] .
(مميز والطاغوت مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحدِّ بزيادة عليه ، وهو لفظ يطلق على الشيطان والكاهن والساحر وكل رأس في الضلال والفسق والفساد وإن كان مسلماً.
فالطاغوت ليس كافراً في جميع الأحوال بل يطلق على الكافر وغيره من رؤوس الفسق والفساد . )
(شعر وبيان ذلك من كلام العلماء : )
(شعر أولاً: علماء اللغة : )
وبدأت بهم للنظر في معناها عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم .
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال . )
قال الجوهري في الصحاح: [والطَّاغُوتُ : الكاهن والشيطان (مميز وكل رأس في الضلال)]. انظر: مختار الصحاح(ص/265).
وقال ابن منظور في لسان العرب(8/444): [الطاغوتُ: ما عُبِدَ من دون الله عز وجل، (مميز وكلُّ رأْسٍ فـي الضلالِ طاغوتٌ ) ].
وقال-أيضاً- (15/9) : [وقال أَبو إِسحاق: كلُّ معبودٍ من دون الله عز وجل جِبْتٌ و طاغُوتٌ .
وقـيل: الـجِبْتُ و الطَّاغُوتُ الكهنةُ والشَّياطينُ.
وقِـيلَ فـي بعضِ التفسير: الـجِبْتُ والطاغُوتُ حُيَـيُّ بن أَخْطَبَ وكعبُ بنُ الأَشْرَفِ الـيَهودِيّانِ؛
قال الأَزهري: وهذا غيرُ خارج عَمَّا قال أَهل اللغة لأَنهم إِذا اتَّبَعُوا أَمرَهما فقد أَطاعُوهما من دون الله.
وقال الشَّعبـيُّ وعطاءٌ ومـجاهدٌ: الـجِبْتُ السِّحْرُ، و الطاغوتُ: الشيطان والكاهِنُ وكلُّ رأْسٍ فـي الضَّلال]
(شعر ثانياً: كلام المفسرين: )
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال ، وأن من السلف فسَّره ببعض أفراده. )
قال سعيد بن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر والطاغوت الكاهن.
وقال مالك : الطاغوت: كل من عبد من دون الله . معاني القرآن(2/111) .
قال مقاتل: يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب (مميز وسائر رؤوس الضلالة. )
انظر: تفسير البغوي(1/446).
وقال ابن جرير -رحمه الله- : [والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء] . تفسير الطبري(3/19) .
وقال: [الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان ] .(5/132) .
وقال النحاس في معاني القرآن (1/271) : [قال أبو جعفر ومن أحسن ما قيل في الطاغوت: أنه من طغى على الله وأصله طغووت مثل جبروت من طغى إذا تجاوز حده] .
وقال في معاني القرآن(2/111) : [والجبت والطاغوت عند أهل اللغة: كل ما عبد من دون الله أو أطيع طاعة فيها معصية أو خضع له
فهذه الاقوال متقاربة ، لأنهم إذا أطاعوهما في معصية الله والكفر بأنبيائه كانوا بمنزلة من عبدهما، كما قال جل وعز : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}] .
وقال الراغب الأصفهاني في المفردات عن الطاغوت : [هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن (مميز والصارف عن الخير)].
قال الثعالبي(1/203) : [واختلف في معنى الطاغوت، فقال عمر بن الخطاب وغيره: هو الشيطان . وقيل: هو الساحر. وقيل: الكاهن. وقيل: الأصنام. وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. ، وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمروذ وأما من لا يرضى ذلك فسمي طاغوتا في حق العبدة] .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير(2/125) : [فأما الطاغوت: فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد] .
وقال القرطبي(3/281) : [والطاغوت مؤنثه من طغى يطغى –وحكى الطبري: يطغو-إذا جاوز الحد بزيادة عليه] .
وقال القرطبي(10/103) : [{واجتنبوا الطاغوت} أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم (مميز وكل من دعا إلى الضلال)] .
ومثله قال الشوكاني في فتح القدير(3/161) .
وقال الآلوسي في روح المعاني(5/55) : [(مميز والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود وغيره)] .
وقال الشوكاني في فتح القدير(1/276) : [والجمع الطواغيب أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورءوس الضلالة أو بالجميع ويؤمن بالله عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق أي المحكم] .
(شعر ثالثاً: من كلام العلماء والمحققين غير من سبق ذكره: )
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال
وخاصة في كلام شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- . )
قال ابن هشام في السيرة(3/100) : [قال ابن هشام : الجبت عند العرب : ما عبد من دون الله تبارك وتعالى . (مميز الطاغوت: كل ما أضل عن الحق) ، وجمع الجبت: جبوت ، وجمع الطاغوت: طواغيت ].
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- : (16/565-566) : [(مميز وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان و الوثن و الكهان و الدرهم و الدينار و غير ذلك)] .
وقال في مجموع الفتاوى(28/200-201) في "فصل في الولاية والعداوة": [والطاغوت: فعلوت من الطغيان ، كما أن الملكوت فعلوت من الملك .
والرحموت والرهبوت والرغبوت فعلوت من: الرحمة والرهبة والرغبة.
(مميز والطغيان: مجاوزة الحد ، وهو الظلم والبغى. )
فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك: طاغوت . ولهذا سمى النبي الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: ((ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت)).
والمطاع في معصية الله ، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق -سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله ، أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله- هو: طاغوت.
ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت ، وسمى الله فرعون وعادا طغاة، وقال في صيحة ثمود: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}] .
وقال شيخ الإسلام في قاعدة في المحبة(ص/123) وفي بيان تلبيس الجهمية(1/450) : (مميز [الطواغيت: كل ما عظم بباطل] . )
وقال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين(3/482) : [والطاغوت: اسم لكل ما عبدوه من دون الله فكل مشرك إلهه طاغوته]
وقال في إعلام الموقعين(1/50) : [(مميز والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع . )
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته] .
ولخص الشيخ عبد الله أبا بطين كلام النووي في شرحه لمسلم( 3/18) وفيه ذكر أقوال للعلماء في الطاغوت ، وزاد على ما ذكره النووي قول الجوهري: [والطَّاغُوتُ : الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال]. كما في الدرر السنية(12/55)
(شعر رابعاً : معنى الطاغوت عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- : )
1- قال -رحمَهُ اللهُ- في خاتمة الأصول الثلاثة: [قال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ تعالى-: معنى الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع .
والطواغيت كثيرون ، ورؤوسهم خمسة:
1-إبليس لعنه الله 2-ومن عبد وهو راض 3-ومن ادعى شيئاً من علم الغيب 4-ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه 5-ومن حكم بغير ما أنزل الله والدليل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} وهذا معنى لا إله إلا الله.. الدرر(1/136) .
(مميز فأدخل من حكم بغير ما أنزل الله ، مع أن الحكم بغير ما أنزل الله المجرد عن القرائن من الكفر الأصغر بالإجماع كما نقله ابن عبد البر ، وسيأتي في الفصول القادمة -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- . )
2- وقال -رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/161-162) : [والطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ، فكل ما عبد من دون الله ، ورضي بالعبادة ، من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت .
والطواغيت كثيرة ، ورؤوسهم خمسة.
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ..
الثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله ...
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله ...
الرابع : الذي يدعي علم الغيب .
الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ...].
(مميز وهنا أدخل حاكم الجور المغير لأحكام الله ، ومن حكم بغير ما أنزل الله ، ضمن رؤوس الطواغيت مع أن الحكم بغير ما أنزل الله المجرد عن القرائن والجور في الحكم من الكفر الأصغر بالإجماع كما سبق . )
3/ وقال -رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/137) : [والطواغيت كثيرة ، (مميز والمتبين لنا منهم )خمسة:
1- أولهم الشيطان
(مميز 2- وحاكم الجور ،
3- وآكل الرشوة ، )
4- ومن عُبِدَ فَرَضِيَ ،
(مميز 5- والعامل بغير علم )]
فجعل من رؤوس الطواغيت الواضحين: حاكم الجور وآكل الرشوة والعامل بغير علم وهي من الكفر الأصغر في الأصل.
(مميز بل آكل الرشوة بإجماع العلماء ليس من الكفار إلا إذا استحل ذلك. )
فتبين مما سبق أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يحصر الطاغوت في الكافر بل يتعدى ذلك إلى رؤوس الضلال والفسق كآكل الرشوة ومن يعمل بغير علم ومن يجور في الحكم حتى ولو كان قاضياً أو مدرساً أو نحو ذلك .
(مميز وبذلك يعلم أن لفظة الطاغوت تعم الكافر ورأس الضلالة والبدعة ، وعليه فلا يجوز أن ننسب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولا لغيره أنه يكفر حاكم الجور أو الحاكم بغير ما أنزل الله بحجة أنه جعله من الطواغيت .
وذلك لأنه أطلق لفظة "الطاغوت" على آكل الرشوة وهو ليس بكافر بالإجماع . )
(شعر انتهى الفصل الأول ، والحمد لله رب العالمين )
(شعر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد . )
(شعر كتبه:
أبو عمر أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فقد اطلعت على رسالة صغيرة الحجم ، عظيمة الإثم والوزر، كتبها رأس من رؤوس الخوارج في هذا الزمان ألا وهو المدعو : "أبو محمد المقدسي عصام برقاوي" سماها: "كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت".
(مميز فلَمَّا اطلعت عليها وجدت فيها جهلاً مطبقاً بالتوحيد والشرع ، وتخبطاً واضحاً في التأصيل والتقعيد، وخلطاً عجيباً في المصطلحات والمفاهيم ، وتكفيراً للدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ-. )
كل ما سبق الإشارة إليه من جهل وتخبط وخلط كتبه ذاك المخذول باسم الدين والشريعة ، ويالها من قالة شنيعة يصدق عليها قول الله –جلَّ وعلا-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}.
وتذكرت قول الله -عزَّ وجلَّ- : {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}.
وقال الله عن مشركي قريش: {إذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب}.
وقال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً{103}الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
فامتثالاً لأمر الله -عزَّ وجلَّ- ، ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-
في نحو قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
وقوله -عزَّ وجلَّ-: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} الآية.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : ((الدين النصيحة-ثلاثاً-)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم)).
أكتب هذا الردع والتبكيت ، والكشف والإيضاح لجهالات وشبهات هذا الخارجي المارق المعاند أبي محمد المقدسي.
والله أسأل أن يسدد قلمي وقولي، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه ، وأسأله تعالى "أن يفتح بهذه البيان والتوضيح آذاناً صماً ، وأعيناً عمياً ، وقلوباً غلفاً إنه ولي ذلك والقادر عليه , وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير".
(مميز وسيكون الردع والتبكيت كما يلي: )
(مميز الفصل الأول: ) معنى الطاغوت وأنه يشمل الكافر ورؤوس الضلال والبدع.
(مميز الفصل الثاني: ) معنى الكفر بالطاغوت وكيفية تحقيقه وبيان تلبيسات المقدسي في ذلك.
(مميز الفصل الثالث: ) معنى الدين ، وبيان تلبيس المقدسي في ذلك.
(مميز الفصل الرابع: ) معنى شرك الطاعة وبيان جهالات وتلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل الخامس: ) التشريع بين معناه في الشرع ومعناه في لغة العرب ومصطلح الناس والرد على تلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل السادس: )أحوال الحكم بغير ما أنزل ، وتفصيل ذلك والرد على تلبيسات المقدسي.
(مميز الفصل السابع: ) بيان تلبيس المقدسي في قصة تبديل اليهود لحكم الزنا.
(مميز الفصل الثامن: )بيان حقيقة الاستهزاء الذي هو كفر بالله العظيم وبيان تلبيس المقدسي.
(مميز الفصل التاسع: ) حكم إقامة الأحلاف والمعاهدات مع المشركين وبيان جهالات المقدسي.
(مميز الفصل العاشر: ) حكم موالاة المشركين وتفصيل ذلك والرد على جهالات المقدسي.
(مميز الفصل الحادي عشر: ) التفريق بين العقوبة على حق الله وحق عباده ليس من باب مساواة أو تفضيل حق العباد على حق الله ، والرد على جهالات المقدسي.
(مميز الفصل الثاني عشر: ) العذر بالجهل وبيان تخبط المقدسي فيه.
(مميز الفصل الثالث عشر: ) بيان جهالات متفرقة في كلام المقدسي ومن ذلك كلامه على الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- .
(مميز الخاتمة . )
وفي خاتمة هذه المقدمة أقول للمقدسي مذكراً له بما قال في آخر رسالته البتراء: [ بيننا وبينكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم لا نقبل حكماً غير ذلك إيتونا منه بدليل وبرهان ينقض ما قلناه وستجدوننا إن شاء الله تعالى أسعد الناس به وأول من يرجع إليه {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.].
(مميز وها أنا آتيك بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة وكلام أعلام الأمة من أهل السنة ، مبيناً بطلان رسالتك ، وكابتاً لما فيها من الخزي والضلال فما عليك إلا الرجوع والتوبة ، وكتابة براءة مما خطته أناملك من العقيدة الفاسدة ، والأحكام الجنكيزية الباطلة. )
والله الموفق لا رب سواه .
(شعر الفصل الأول: معنى الطاغوت وأنه يشمل الكافر ورؤوس الضلال والبدع. )
(شعر تعريف الطاغوت )
اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الطاغوت ، ففسره أكثرهم ببعض أفراده وليس على سبيل الحصر .
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في تيسير العزيز الحميد(ص/49) : [(مميز الطاغوت : مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد وقد فسره السلف ببعض أفراده)..] .
(مميز والطاغوت مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحدِّ بزيادة عليه ، وهو لفظ يطلق على الشيطان والكاهن والساحر وكل رأس في الضلال والفسق والفساد وإن كان مسلماً.
فالطاغوت ليس كافراً في جميع الأحوال بل يطلق على الكافر وغيره من رؤوس الفسق والفساد . )
(شعر وبيان ذلك من كلام العلماء : )
(شعر أولاً: علماء اللغة : )
وبدأت بهم للنظر في معناها عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم .
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال . )
قال الجوهري في الصحاح: [والطَّاغُوتُ : الكاهن والشيطان (مميز وكل رأس في الضلال)]. انظر: مختار الصحاح(ص/265).
وقال ابن منظور في لسان العرب(8/444): [الطاغوتُ: ما عُبِدَ من دون الله عز وجل، (مميز وكلُّ رأْسٍ فـي الضلالِ طاغوتٌ ) ].
وقال-أيضاً- (15/9) : [وقال أَبو إِسحاق: كلُّ معبودٍ من دون الله عز وجل جِبْتٌ و طاغُوتٌ .
وقـيل: الـجِبْتُ و الطَّاغُوتُ الكهنةُ والشَّياطينُ.
وقِـيلَ فـي بعضِ التفسير: الـجِبْتُ والطاغُوتُ حُيَـيُّ بن أَخْطَبَ وكعبُ بنُ الأَشْرَفِ الـيَهودِيّانِ؛
قال الأَزهري: وهذا غيرُ خارج عَمَّا قال أَهل اللغة لأَنهم إِذا اتَّبَعُوا أَمرَهما فقد أَطاعُوهما من دون الله.
وقال الشَّعبـيُّ وعطاءٌ ومـجاهدٌ: الـجِبْتُ السِّحْرُ، و الطاغوتُ: الشيطان والكاهِنُ وكلُّ رأْسٍ فـي الضَّلال]
(شعر ثانياً: كلام المفسرين: )
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال ، وأن من السلف فسَّره ببعض أفراده. )
قال سعيد بن جبير وأبو العالية: الجبت الساحر والطاغوت الكاهن.
وقال مالك : الطاغوت: كل من عبد من دون الله . معاني القرآن(2/111) .
قال مقاتل: يعني كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب (مميز وسائر رؤوس الضلالة. )
انظر: تفسير البغوي(1/446).
وقال ابن جرير -رحمه الله- : [والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء] . تفسير الطبري(3/19) .
وقال: [الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان ] .(5/132) .
وقال النحاس في معاني القرآن (1/271) : [قال أبو جعفر ومن أحسن ما قيل في الطاغوت: أنه من طغى على الله وأصله طغووت مثل جبروت من طغى إذا تجاوز حده] .
وقال في معاني القرآن(2/111) : [والجبت والطاغوت عند أهل اللغة: كل ما عبد من دون الله أو أطيع طاعة فيها معصية أو خضع له
فهذه الاقوال متقاربة ، لأنهم إذا أطاعوهما في معصية الله والكفر بأنبيائه كانوا بمنزلة من عبدهما، كما قال جل وعز : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}] .
وقال الراغب الأصفهاني في المفردات عن الطاغوت : [هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن (مميز والصارف عن الخير)].
قال الثعالبي(1/203) : [واختلف في معنى الطاغوت، فقال عمر بن الخطاب وغيره: هو الشيطان . وقيل: هو الساحر. وقيل: الكاهن. وقيل: الأصنام. وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت. ، وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمروذ وأما من لا يرضى ذلك فسمي طاغوتا في حق العبدة] .
وقال ابن الجوزي في زاد المسير(2/125) : [فأما الطاغوت: فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد] .
وقال القرطبي(3/281) : [والطاغوت مؤنثه من طغى يطغى –وحكى الطبري: يطغو-إذا جاوز الحد بزيادة عليه] .
وقال القرطبي(10/103) : [{واجتنبوا الطاغوت} أي: اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم (مميز وكل من دعا إلى الضلال)] .
ومثله قال الشوكاني في فتح القدير(3/161) .
وقال الآلوسي في روح المعاني(5/55) : [(مميز والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود وغيره)] .
وقال الشوكاني في فتح القدير(1/276) : [والجمع الطواغيب أي فمن يكفر بالشيطان أو الأصنام أو أهل الكهانة ورءوس الضلالة أو بالجميع ويؤمن بالله عز وجل بعد ما تميز له الرشد من الغي فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق أي المحكم] .
(شعر ثالثاً: من كلام العلماء والمحققين غير من سبق ذكره: )
(مميز ويظهر من كلامهم جلياً أن لفظة "الطاغوت" لا تعني الكافر بل : الكافر ورؤوس الضلال
وخاصة في كلام شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- . )
قال ابن هشام في السيرة(3/100) : [قال ابن هشام : الجبت عند العرب : ما عبد من دون الله تبارك وتعالى . (مميز الطاغوت: كل ما أضل عن الحق) ، وجمع الجبت: جبوت ، وجمع الطاغوت: طواغيت ].
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- : (16/565-566) : [(مميز وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان و الوثن و الكهان و الدرهم و الدينار و غير ذلك)] .
وقال في مجموع الفتاوى(28/200-201) في "فصل في الولاية والعداوة": [والطاغوت: فعلوت من الطغيان ، كما أن الملكوت فعلوت من الملك .
والرحموت والرهبوت والرغبوت فعلوت من: الرحمة والرهبة والرغبة.
(مميز والطغيان: مجاوزة الحد ، وهو الظلم والبغى. )
فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارها لذلك: طاغوت . ولهذا سمى النبي الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: ((ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت)).
والمطاع في معصية الله ، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق -سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله ، أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله- هو: طاغوت.
ولهذا سمى من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت ، وسمى الله فرعون وعادا طغاة، وقال في صيحة ثمود: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية}] .
وقال شيخ الإسلام في قاعدة في المحبة(ص/123) وفي بيان تلبيس الجهمية(1/450) : (مميز [الطواغيت: كل ما عظم بباطل] . )
وقال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين(3/482) : [والطاغوت: اسم لكل ما عبدوه من دون الله فكل مشرك إلهه طاغوته]
وقال في إعلام الموقعين(1/50) : [(مميز والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع . )
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته] .
ولخص الشيخ عبد الله أبا بطين كلام النووي في شرحه لمسلم( 3/18) وفيه ذكر أقوال للعلماء في الطاغوت ، وزاد على ما ذكره النووي قول الجوهري: [والطَّاغُوتُ : الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال]. كما في الدرر السنية(12/55)
(شعر رابعاً : معنى الطاغوت عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- : )
1- قال -رحمَهُ اللهُ- في خاتمة الأصول الثلاثة: [قال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ تعالى-: معنى الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع .
والطواغيت كثيرون ، ورؤوسهم خمسة:
1-إبليس لعنه الله 2-ومن عبد وهو راض 3-ومن ادعى شيئاً من علم الغيب 4-ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه 5-ومن حكم بغير ما أنزل الله والدليل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} وهذا معنى لا إله إلا الله.. الدرر(1/136) .
(مميز فأدخل من حكم بغير ما أنزل الله ، مع أن الحكم بغير ما أنزل الله المجرد عن القرائن من الكفر الأصغر بالإجماع كما نقله ابن عبد البر ، وسيأتي في الفصول القادمة -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- . )
2- وقال -رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/161-162) : [والطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ، فكل ما عبد من دون الله ، ورضي بالعبادة ، من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت .
والطواغيت كثيرة ، ورؤوسهم خمسة.
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ..
الثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله ...
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله ...
الرابع : الذي يدعي علم الغيب .
الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ...].
(مميز وهنا أدخل حاكم الجور المغير لأحكام الله ، ومن حكم بغير ما أنزل الله ، ضمن رؤوس الطواغيت مع أن الحكم بغير ما أنزل الله المجرد عن القرائن والجور في الحكم من الكفر الأصغر بالإجماع كما سبق . )
3/ وقال -رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/137) : [والطواغيت كثيرة ، (مميز والمتبين لنا منهم )خمسة:
1- أولهم الشيطان
(مميز 2- وحاكم الجور ،
3- وآكل الرشوة ، )
4- ومن عُبِدَ فَرَضِيَ ،
(مميز 5- والعامل بغير علم )]
فجعل من رؤوس الطواغيت الواضحين: حاكم الجور وآكل الرشوة والعامل بغير علم وهي من الكفر الأصغر في الأصل.
(مميز بل آكل الرشوة بإجماع العلماء ليس من الكفار إلا إذا استحل ذلك. )
فتبين مما سبق أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يحصر الطاغوت في الكافر بل يتعدى ذلك إلى رؤوس الضلال والفسق كآكل الرشوة ومن يعمل بغير علم ومن يجور في الحكم حتى ولو كان قاضياً أو مدرساً أو نحو ذلك .
(مميز وبذلك يعلم أن لفظة الطاغوت تعم الكافر ورأس الضلالة والبدعة ، وعليه فلا يجوز أن ننسب لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولا لغيره أنه يكفر حاكم الجور أو الحاكم بغير ما أنزل الله بحجة أنه جعله من الطواغيت .
وذلك لأنه أطلق لفظة "الطاغوت" على آكل الرشوة وهو ليس بكافر بالإجماع . )
(شعر انتهى الفصل الأول ، والحمد لله رب العالمين )
(شعر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد . )
(شعر كتبه:
أبو عمر أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي )
علاء.- زائر
تتابع
الفصل الثاني
الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت)
(شعر الفصل الثاني)
(شعر معنى الكفر بالطاغوت وكيفية تحقيقه وبيان تلبيسات المقدسي في ذلك.)
لقد تخبط المقدسي في معنى الكفر بالطاغوت، وجعل بعض الأمور المشروعات من عبادة الطاغوت، وجعل ما هو معصية عبادة للطاغوت وخروجاً عن ملة الإسلام.
وهذا التخبط نشأ عن جهله بمعنى العبادة التي خلق الله الجن والإنس لها، ومن ثم جهله بكيفية صرفها لغير الله.
وفي هذا الفصل سأبين معنى العبادة ، ومتى يكون العبد صارفاً العبادة لغير الله ، وبينت معنى الكفر بالطاغوت عند أهل السنة والجماعة .
(شعر أولاً: معنى العبادة ومتى يكون العبد صارفاً العبادة لغير الله. )
لقد خلق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الخلقَ لغايةٍ حميدةٍ ، ولأمرٍ عظيمٍ ألا وهو توحيدُ اللهِ وعبادتُهُ وطاعتُهُ ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(1)
فقدْ ذكرَ اللهُ في هذه الآيةِ الكريةِ الحكمةَ منْ خلقِ الجنِّ والإنسِ ألا وهي العبادةُ.
(مميز تعريف العبادة: )
(مميز العبادةُ في اللُّغَةِ ) مأخوذةٌ من التَّذَلُّلِ والافتقارِ ؛ يقال: طريقٌ معبدٌ أيْ: مُذَلَّلٌ(2)
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْميَّةَ-رحمهُ اللهُ- : والعبادة أصل معناها الذل يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام (3)
وقال ابنُ كَثِيرٍ-رحمهُ اللهُ- : العبادةُ في اللُّغَةِ منَ الذِّلَّةِ ، يُقالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ وبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ أيْ: مُذَلَّلٌ(4).
(مميز وأما في الشَّرعِ : فهي طاعةُ اللهِ بامتِثَالِ ما أمرَ به ، واجتنابِ ما نَهَى عنهُ. )
قال شيخُ الإسلامِ: "والإجابةُ والاستجابةُ: هي طاعةُ الأمرِ والنَّهي ، وهي العبادةُ التي خُلِقَ لها الثَّقلانِ كما قال تعالى:{وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون}"(5).
وقال –أيضاً-: العبادةُ اسمٌ جامعٌ لِمَا يحبهُ الله ويرضاهُ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظاهرةِ(6)
(مميز وأصلُ العبادةِ: التَّذَلُّلُ والخضوعُ ، ولذا سُمِّيَتْ وظائفُ الشَّرعِ على المكلَّفينَ عباداتٍ لأنَّهُم يلْتَزِمُونها ويفعلُونَها بِخُضُوعٍ وتذلُّلِ وافتِقارٍ للهِ تعالى. )
والمقصودُ بالآيةِ: أنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّهُ ما خلقَ الإنسَ والجنَّ إلا لعبادتِهِ ، فهذه هي الحكمةُ منْ خَلقِهم ، ولم يُرِدْ منهم ما تريدُهُ السَّادَةُ منْ عبيدِها منَ الإعانَةِ لهم بالرَّزْقِ والإطعامِ ، بل إنَّ اللهَ هو الرَّزَّاقُ ذو القوَّةِ المتينُ ، الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ ، وهو الغنيُّ بذاتِهِ سبحانَهُ ، لا تنفعُهُ طاعةُ المطِيعِ ، ولا تَضُرُّهُ معصيةُ عاصٍ ، بلِ الخلقُ مفْتَقِرونَ مُحْتاجُونَ إليهِ ، {يا أيَّها النَّاسُ أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ* إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}(7).
وعبادتُهُ هي طاعتُهُ بِفِعْلِ المأمُورِ وتَرْكِ المَحْظُورِ وذلك هو حقيقةُ دينِ الإسلامِ لأنَّ معنى الإسلامِ : هو الاستسلامُ لله تعالى المتضَمِّنُ غايةَ الانقيادِ في غايةِ الذُّلِّ والخضوعِ(8).
(مميز ومَبْنى العبادةِ على الذُّلِّ والخُضُوعِ ، المقرونِ بالحُبِّ لأعظمِ محبوبٍ ألا وهو الربُّ -سبحانه وتعالى-. )
وقال شيخُ الإسلامِ: فالدَّعوةُ والعبادةُ : اسمٌ جامعٌ لغايةِ الحبِّ للهِ وغايةِ الذُّلِّ لَهُ، فَمَنْ ذلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لم يكن عابِداً ، بل يكونُ هو المحبوبُ المطلقُ ؛ فلا يُحِبُّ شيئاً إلا لَهُ (9).
فتأمل قول شيخ الإسلام : " فَمَنْ ذلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لم يكن عابِداً" لتعلم أن الحب شرط أساسي في التعبد وإذا اختل لم يكن فاعل ذلك العمل عابداً.
(مميز والعبادة: هي توحيدُ الله بكلِّ ما يختَصُّ بِهِ تعالى. )
(مميز فهو المعبودُ بتوحيدِهِ في إلهيتِهِ ، وفي أسمائِه وصفاتِهِ ، وفي رُبُوْبِيَّتِهِ. )
"وهذا الأصلُ ؛ وهو التَّوحِيدُ: هو أصلُ الدِّينِ ، الذي لا يَقبلُ الله من الأولينَ والآخرينَ دِيناً غيرَهُ ، وبهِ أرسلَ الله الرُّسُلَ ، وأنْزَلَ الكتُبَ ؛ كما قال تعالى: {وسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلهةً يُعْبَدُونَ}(10) ،
وقالَ تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلا أنّا فَاعْبُدُونِ}(11) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اعْبُدُوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلِيهِ الضَّلالَةُ}(12) ،
وقد ذكرَ الله -عزَّ وجَلَّ- عن كلٍّ مِنَ الرُّسُلِ أنَّهُ افتَتَحَ دعوتَهُ بأنْ قالَ لقومه : {اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}" (13)
وهذه العبادةُ مُتعَلِّقَةٌ بإلهيتِهِ تعالى ، ولهذا كانَ عنوانُ التَّوحيدِ وأساسُهُ "لا إِلَهَ إلا اللهُ" بخلافِ مَنْ يقرُّ برُبوبيتهِ ، ولا يَعْبُدُه ويوحِّدُهُ ، أو يعبُدُ معهُ إلهاً آخرَ .
فالإلَهُ : هو الَّذِي يألَهُهُ القلبُ بكمالِ الْحُبِّ والتَّعظيمِ ، والإجْلالِ والإكْرامِ، والخوفِ والرَّجاءِ ، ونحوِ ذلكَ.
وهذه العبادةُ هي التى يُحِبُّها اللهُ ويَرْضاها ، وبها وَصَفَ المصْطَفَيْنَ مِن عبادِهِ، وبها بعثَ رسُلَهُ.
وأمَّا العبدُ بمعنى الْمُعَبَّدِ -سواءٌ أقَرَّ بذلك أم لم يُقِرَّ- فهذا المعنى يشتَرِكُ فيه المؤمنُ والكافرُ (14).
وكلُّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ مربوبٌ (مميز فالتَّعَبُّدُ للهِ له مَعنيانِ :
المعنى الأول: التَّعَبُّدُ العامُّ )، وهذا لكلِّ ما سوى الله من جنٍّ ، وإنسٍ ، وملائكةٍ، وأنعامٍ ، وبهائمَ ، وجماداتٍ ، وغيرها .
قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِيْنِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}
"فذكرَ إسلامَ الكائناتِ طوعاً وكرهاً ؛ لأنَّ المخلوقاتِ جميعَهَا متعَبّدَّةٌ لَهُ التَّعَبُّدُ العامُّ ، سواءٌ أقرَّ الْمُقِرُّ بذلك أو أنكره ، وهم مَدينُون له ، مدَبَّرُونَ ، فهم مسلمون له طَوعاً وكَرهاً ، ليس لأحدٍ منَ المخلوقاتِ خروجٌ عمَّا شاءَهُ وقدَّرَهُ وقضاه ، ولا حول ولا قوَّةَ إلا به ، وهو ربُّ العالمين ومليكُهم ، يُصَرِّفُهم كيفَ يشاءُ ، وهو خالِقُهُم كلِّهِم وبارِؤُهُم ومصَوِّرُهُم .
كلُّ ما سواهُ فهو مربوبٌ ، مصنوعٌ ، مفطورٌ ، فقيرٌ ، محتاجٌ ، معبَّدٌ ، مقهورٌ ، وهو سبحانه الواحدُ ، القهَّارُ ، الخالقُ ، البارئُ ، المصوِّرُ" (15)
(مميز المعنى الثاني: التَّعَبُّدُ الخاصُّ )، وهو التَّعَبُّدُ المتَعَلِّقُ بالأمرِ والنَّهيِ ، وجعلَ اللهُ فيه للعابدِ الاختيارَ ، وهذا خاصٌّ بالجنِّ والإنسِ .
قال تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدونِ}.
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- في الآية : إلا لآمرهمْ أنْ يعبدونِي ، وأدعوهم إلى عبادتِي . وقال مجاهد: إلا لآمرَهم وأنهاهم (16).
(مميز وهذه العبادةُ الخاصَّةُ الْمَبْنِيَّةُ على كمالِ الحبِّ والتَّعظيمِ ، والاجلالِ والاكرامِ، والخوفِ والرجاءِ ، ونحوِ ذلك ؛هي التي يتَحصَّلُ بِها العبدُ على تمامِ اللذَّةِ ، والسرورِ ، والسعادةِ ، والْحُبورِ. )
فالقلبُ لا يَصْلُحُ ، ولا يُفلِحُ ، ولا يلْتَذُّ ، ولا يُسَرُّ ، لا يطيبُ ، ولا يسكُنُ ، ولا يطمئنُّ إلا بعبادةِ ربِّهِ ، وحُبِّهِ ، والإنابةِ إليه ، ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به منَ المخلوقاتِ لم يطمئنَّ ، ولم يسكن ؛ إذْ فيه فقرٌ ذاتِيٌّ إلى ربهِ ، ومن حيثُ هو
معبودُهُ ، ومحبوبُه ، ومطلوبُه ، وبذلك يحصلُ له الفرحُ ، والسرورُ ، واللذَّةُ ، والنِّعمةُ ، والسُّكونُ ، والطمأنينةُ.
وهذا لا يحصلُ له إلا بإعانةِ الله لَهُ ، فإنَّه لا يقدرُ على تحصيلِ ذلك له إلا اللهُ ، فهو دائماً مفتقرٌ إلى حقيقةِ {إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} فإنَّهُ لو أُعينَ على حصولِ ما يُحِبُّهُ ويَطْلُبُهُ ويشتَهِيْهِ ويريدُه ، ولم يحصلْ له عبادةُ لله فلنْ يحصلَ إلا على الألَمِ، والحسْرَةِ ، والعذابِ ، ولنْ يَخْلُصَ من آلام الدنيا ، ونكدِ عيشِها إلا بإخلاصِ الحبِّ لله بحيثُ يكونُ هو غايةُ مرادِهِ ، ونهايةُ مقصودِهِ ، وهو المحبوبُ له بالقصدِ الأوَّلِ ، وكلُّ ما سواهُ إنَّما يحبهُ لأجلِهِ ، لا يحبُّ شيئاً لذاتهِ إلا الله .
فمتى لم يحصلْ له هذا ؛لم يكنْ قد حقَّقَ حقيقةَ "لا إله إلا الله"، ولا حقَّقَ التَّوحيدَ، والعبوديةَ، والمحبةَ لله، وكان فيه من نقصِ التوحيدِ والإيمانِ، بل من الألم والحسرةِ والعذابِ بحسَبِ ذلك ، ولو سَعَى في هذا المطلوبِ ولم يكنْ مستعيناً بالله متوكلاً عليه ، مفتقراً إليه في حصولِهِ ؛ لم يحصلْ له ، فإنَّهُ ما شاءَ الله كانَ ،
وما لم يشأْ لم يكنْ ، فهو مفتقرٌ إلى الله ؛ من حيثُ هو المطلوبُ ، المحبوبُ ، المرادُ ، المعبودُ ، ومن حيثُ هو المسؤولُ ، المستعانُ بِهِ ، الْمُتَوَكَّلُ عليه، فهو إلههُ لا إلهَ لَهُ غَيْرُهُ ، وهو ربُّهُ لا ربَّ سواهُ .
ولا تَتِمُّ عبوديتُهُ لله إلا بهذين(17)؛ فمتى كان يحبُّ غيرَ الله لذاتِهِ ، أو يلتفتُ إلى غير الله أنَّهُ يعينُهُ ؛ كان عبداً لما أحبَّهُ ، وعبداً لما رجاهُ ؛ بحسب حُبهِ له ، ورجائِهِ إيَّاه ، وإذا لم يحبَّ أحداً لذاته إلا اللهَ ، وأيَّ شيءٍ أحبَّهُ سواه فإنَّما أحبَّهُ لَهُ ، ولم يرجُ قطُّ شيئاً إلا اللهَ ، وإذا فعلَ ما فعلَ من الأسبابِ ، أو حصَّلَ ما حصَّلَ منها كان مشاهِداً أن الله هو الذي خلقها ، وقدَّرَها ، وسخَّرَها له ، وأنَّ كلَّ ما في السماواتِ والأرضِ فاللهُ ربُّه ، ومليكُه ، وخالقُه ، ومسخِّرُهُ ، وهو مفْتَقِرٌ إليه ؛ كان قد حصَلَ له من تمامِ عبوديتِه لله بحسبِ ما قُسِمَ له مِنْ ذلك .
والناسُ في هذا على درجاتٍ متفاوتةٍ لا يُحصِي طرفَيْها إلا الله ؛ فأكملُ الخلقِ ، وأفْضَلُهُم ، وأعلاهم ، وأقربُهم إلى اللهِ ، وأقواهم ، وأهداهم : أتَمُّهُم عبوديةً لله منْ هذا الوجهِ .
وهذا هو حقيقةُ دينِ الإسلامِ الذي أرسلَ الله به رسلَهُ ، وأنزلَ به كتبَهُ ؛ وهو أنْ يستسلمَ العبدُ لله لا لغيْرِهِ . فالمستَسْلِمُ لهُ ولغيرهِ مشركٌ ، والممتنعُ عن الاستسلامِ له مستَكْبِرٌ(18).
(مميز فتبينَ مما سبقَ أنَّ الغايةَ من خلقِ الخلقِ ؛ عبادةُ الله وحدَهُ ، والغايةَ منْ إرسالِ الرسلِ ؛ هو تعريفُ الناسِ بالعبادةِ التي خُلِقوا من أجلِها . )
فلا يحققُ العبدُ الغايةَ من خلقِهِ إلا (مميز بتحقيقِ أمرينِ:
الأمرُ الأولُ : ) إخلاصُ العبادةِ للهِ ، وهو مقتَضَى شهادةِ ألا إله إلا الله .
(مميز الأمرُ الثاني : ) متابعةُ الرسولِ الذي بعثَهُ الله لنا لتحقيقِ العبوديةِ ، وهو مقتضَى شهادةِ أنَّ محمداً رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- .
وتبين أن العبادة مبناها على الحب ، والخضوع والخوف والرجاء لذات المعبود.
(مميز أما إذا كان الفعل ليس لذات المعبود حباً وخوفاً ورجاءً ، وإنما لدفع ضرر أو لشهوة عارضة أو لتحقيق مطمع فلا يكون عبادة إلا إذا كان القول أو الفعل ناقضاً يخرج من الإسلام فحينئذ ينخلع أصل الحب والرجاء والخوف من قلب العبد فيخرج من الإسلام ، ويصير عابداً لهواه وإن زعم خلاف ذلك فالله يعلم السر وأخفى . )
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- ذاكراً بعض الفوائد من سورة الفاتحة : " { إياك نعبد } أي أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث : بمحبتك ، ورجائك ، وخوفك . فهذه الثلاث أركان العبادة ، وصرفها لغير الله شرك . وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منهن ، كمن تعلق بالمحبة وحدها أو تعلق بالرجاء وحده أو تعلق بالخوف وحده ، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك . "
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "فإن قيل : فما الجامع لعبادة الله وحده ؟ قلت : طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . فإن قيل : فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله تعالى ؟ قلت : من أنواعها الدعاء والاستعانة ، والاستغاثة ، وذبح القربان ، والنذر ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والإنابة ، والمحبة ، والخشية ، والرغبة والرهبة ، والتأله ، والركوع ، والسجود ، والخشوع ، والتذلل ، والتعظيم الذي هو من خصائص الإلهية" ثم ذكر أدلتها ثم قال: " فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله تعالى فقد أشرك بالله غيره .
فإن قيل : فما أجل أمرٍ أمرَ الله به ؟ قيل : توحيده بالعبادة ، وقد تقدم بيانه . وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به ، وهو أن يدعو مع الله غيره أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة . فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً وأشرك مع الله غيره ، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة . وقد تقدم من الآيات ما يدل على أن هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه وأنكره على المشركين . وقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيداً } ، وقال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } والله أعلم " انتهى كلامه -رحمَهُ اللهُ- .
(شعر وبعد بيان معنى العبادة، وما هو مبناها وأصلها ولبُّها ، وذكر أهم أنواعها أتكلم عن دليل يستدل به الخوارج يلبسون به على عباد الله. )
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة؛ إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه ؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع))رواه البخاري في صحيحه(3/1057-البغا).
وقد ظن بعض الناس أن العبودية الواردة في هذا الحديث "للدينار والدرهم والخميصة والخميلة" هي كعبادة الأوثان والأصنام مطلقاً.
(مميز وهذا باطل، بل هذا التعبد قد يكون شركاً أصغر وقد يكون شركاً أكبر. )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- "إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان ، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص ، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ، (مميز ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، )
وفى الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط)) فسماه النبي عبدَ الدرهم، وعبدَ الدينار، وعبدَ القطيفة، وعبدَ الخميصة، وذكر ما فيه دعاء وخبر ، وهو قوله: ((تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) والنقش: إخراج الشوكة من الرِّجْلِ، والمنقاشُ: ما يخرج به الشوكةُ. وهذه حال من إذا أصابه شرٌّ لم يخرج منه، ولم يفلح ، لكونه تعس وانتكس ، فلا نال المطلوب ، ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال..." مجموع الفتاوى(10/180) .
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : "جعلَهُ عَبْدَ ما يرضيه وجودُهُ، ويسخطُهُ فقدُهُ، حتى يكون عبد الدرهم وعبدَ ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة هي التي يجلس عليها فهو خادمها، كما قال بعض السلف: البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة: هي التي يرتدي بها،
وهذا من أقل المال، وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلى منه، فهو عبدٌ لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون ، ولهذا قال: ((إن أُعْطِيَ رضي وإنْ منع سَخِطَ)) فما كان يرضي الإنسانَ حصولُهُ ، ويسخطُهُ فقدُهُ فهو عَبْدُهُ إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما، والمعبود الحق الذي "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" إذا عبَدَهُ المؤمنُ وأحبَّه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان وتوحيد ومحبة وذكر وعبادة ، فيرضى بذلك ، وإذا منع من ذلك غضب ، وكذلك من أحب شيئاً فلا بد من أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان قال الجنيد: لا يكون العبد عبداً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً.
وهذا مطابق لهذا الحديث ، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً مخلصاً دينَهُ لله كلَّه حتى لا يكون عبداً لما سواه، ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله، فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عَبْدٌ لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته وعبادته لذلك الغير" مجموع الفتاوى(10/597-598).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمَهُ اللهُ- : "فمنْ لم يتحققْ بعبودية الرحمن وطاعتِه فإنه يعبدُ الشيطانَ بطاعته له، ولم يَخْلَصْ من عبادةِ الشيطان إلا من أخلصَ عبوديةِ الرحمن ، وهم الذين قال فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} فهم الذين حققوا قول: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ ، وأخلصوا في قولها ، وصدَّقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا ، وهم الذين صدَقوا في قول: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ ، وهم عباد الله حقاً ، فأمَّا من قال: "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ بلسانه ، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته؛ فقد كذَّبَ فعلُهُ قولَهُ ، (مميز ونقصَ منْ كمالِ توحيدِهِ بقدر معصيةِ الله في طاعة الشيطانِ والهوى ) ، {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، فيا هذا كن عبدَ الله لا عبدَ الهوى ، فإنَّ الهوى يهوي بصاحبه في النارِ، {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} ، ((تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار)) ، والله لا ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقَّقَ عبودية الله وحده، ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار، من علِمَ أنَّ معبودَهُ الله فردٌ فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" كلمة الإخلاص(ص/27-28) .
قال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ- : "وأقل ما في حبها أنه يلهى عن حب الله وذكره ، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين ، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، وصرفه حيث أراد، ومن فقهه في الشر أنه يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يفعل فيها الخير، وقد تعبد لها قلبه، فأين يقع ما يفعله من البر مع تعبده لها؟! وقد لعنه رسول الله ودعا عليه ؛ فقال: ((لعن عبد الدينار والدرهم))، وقال: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، إن أعطى رضى وإن منع سخط)) وهذا تفسير منه وبيان لعبوديتها"(19).
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام(4/174) : " أراد بعبد الدينار والدرهم من استعبدتْهُ الدنيا بطلبها، وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك، لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها.
وذكر الدينار والقطيفة مجرد مثالٍ، وإلا فكل من استعبدته الدنيا في أي أمر ، وشغلته عما أمر الله تعالى ، وجعل رضاه وسخطه متعلقاً بنيل ما يريد ، أو عدم نيله ، فهو عبده .
فمن الناس من يستعبده حب الإمارات ، ومنهم من يستعبده حب الصور، ومنهم من يستعبده حبُّ الأطيان.
واعلم أنَّ المذموم من الدنيا كلُّ ما يُبْعِدُ العبدَ عن الله تعالى، ويشغله عن واجب طاعته وعبادته، لا ما يعينه على الأعمال الصالحة مذموم ، وقد يتعين طلبه ويجب عليه تحصيله.
وقوله: ((رضي)) أيْ: عن الله بما ناله من حطامها ، ((وإن لم يعط لم يرض)) أيْ: عنه تعالى ، ولا عن نفسه فصار ساخطا ، فهذا الذي تعس لأنه أدار رضاه على مولاه ، وسخطه على نيل الدنيا وعدمه.
والحديث نظير قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه}".
وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمَهُ اللهُ- في القول المفيد شرح كتاب التوحيد(2/71) : " الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة . (مميز وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك ، ولكنها نوع أخر يخل بالإخلاص ) ، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة".
(شعر ثانياً: صفة الكفر بالطاغوت )
إن الكفر بالطاغوت أحد ركني شهادة لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اعْبُدُوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلِيهِ الضَّلالَةُ}، {فمنْ يكفُرْ بالطَّاغُوتِ ويؤمنْ باللهِ فقدِ استمسكَ بالعُرْوةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا واللهُ سميعٌ عليمٌ}.
(مميز والكفر بالطاغوت يكون بالقلب واللسان والجوارح : )
(مميز أما الكفر بالطاغوت بالقلب: ) فأن يعتقد أن لا ربَّ وأن لا إِلَهَ يعبد بحقٍّ إلاَّ اللهُ ، وأنَّ كلَّ ما سواه من أرباب وآلهةٍ ومعبودات فهي باطلة ، وأن يعتقد أنه لا يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله الواحد القهار .
ويبغض الطواغيت سواء من كان كافراً منهم أو رأساً في الضلالة، ويعتقد كفر من كفره الله ورسوله .
(مميز وأما الكفر بالطاغوت باللسان: ) فيكون بالتبرؤ من الطواغيت ، والتبرؤ من عبادتها، وبمعاداة الكفار، والتبرؤ منهم.
(مميز ويكفي في الأصل النطق بالشهادة في البراءة القولية من الطاغوت إلا إذا كان متلبساً بشيء من ذلك ويكون قد لزمه البيان بعد التوبة، أو ممن رأى منكراً فيغيره بلسانه إذا لم يقم غيره بهذا الإنكار. )
(مميز وأما الكفر بالطاغوت بالجوارح: ) فهو بالابتعاد عن عبادة الطواغيت، وبعدم صرف شيء من العبادة لغير الله ، وبمجاهدة عبدة الطواغيت على قدر استطاعته.
وعلى ما سبق يدل كلام أهل العلم في تعريف الكفر، وبيان نواقض الإسلام، وبيان كيفية الكفر بالطاغوت.
(مميز وأذكر بعض النقول في ذلك. )
قال ابن كثير -رحمَهُ اللهُ- (1/312) في تفسير قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}: [من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أيْ: فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم].
قال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : [فتبين أن الطاغوتَ يؤمنُ به، ويكفرُ به. ومعلومٌ أن مجردَ التصديقِ بوجودِهِ وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر ، فإنَّ الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر ، وقد قال الله تعالى في السحر : {حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} إلى قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له
في الآخرة من خلاق}
فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملكِ سليمانَ ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ؛ يعلمون أنَّهُ لا خَلاقَ لهم في الآخرةِ، ومع هذا فيكفرون.
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت إذا كان عالماً بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه ونحو ذلك من الجبت ، وكان عالما بأحوال الشيطان والأصنام وما يحصل بها من الفتنة ؛ لم يكن مؤمناً بها مع العلم بأحوالها.
ومعلومٌ أنَّهُ لم يعتقد أحدٌ فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء، ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوعٌ من المطالب، كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام ، وتخبرهم بأمور.
وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم ، وكان كفرهم بها الخضوعُ لها، والدعاءُ، والعبادةُ، واتخاذها وسيلة، ونحو ذلك؛ لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإنَّ هذا يعلمه العالم من المؤمنين، ويصدق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة، فيبغضه.
والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حبُّ العاجلة على الكفرِ ، يبين ذلك قولُهُ: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنَّهُمُ استحبوا الحياةَ الدنيا على الآخرةِ وأنَّ الله لا يهدى القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} فقد ذكرَ تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} ، وبَيَّنَ تعالى أنَّ الوعيد استحقوه بهذا .
ومعلوم أنَّ باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض ، وهؤلاء –يعني بهم: الصالحي وغيره ممن وافق الجهم في مسمى الإيمان-يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمانِ من قلوبهم ، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة.
والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران ، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
وأيضاً فإنَّهُ -سبحانه- استثني المكرَه من الكفار ، ولو كان الكُفْرُ لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأنَّ الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفرٌ لا في حال الإكراه" انظر: مجموع الفتاوى(7/558-560).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : "ومعنى الكفر بالطاغوت أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله ، من جني أو انسي أو شجر أو حجر أو غير ذلك ، وتشهد عليه بالكفر والضلال وتبغضه ولو كان أباك وأخاك.
فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله ، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور وأمثال ذلك ، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله ولم يؤمن بالله ولم يكفر بالطاغوت" مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4 / 33 .
وقال -رحمَهُ اللهُ- في كتاب التوحيد : "الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟"
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين شارحا لها: "أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية.
(مميز وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.) " القول المفيد باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/161-162) : "اعلم رحمك الله تعالى أن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، والدليل قوله تعالى : {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
(مميز فأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها . وتعاديهم . )
وأما معنى الإيمان بالله فهو أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله وتنفيها عن كل معبود سواه ، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم ، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم . وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها ، وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله : {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} .
والطاغوت عام ، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع
أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت . والطواغيت كثيرة ورءوسهم خمسة :
( الأول ) : الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } .
( الثاني ) : الحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى ، والدليل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً } .
( الثالث ) : الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . . .
( الرابع ) : الذي يدعي علم الغيب من دون الله ، والدليل قوله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } وقال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .
( الخامس ) : الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ، والدليل قوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ، كذلك نجزي الظالمين }.
واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } . الرشد دين محمد صلى الله عليه وسلم ، والغي دين أبي جهل، والعروة الوثقى شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له" انتهى كلامه -رحمَهُ اللهُ- .
وقال -رحمَهُ اللهُ-: "والطاغوتُ هو الذي يسمى السيد الذي ينخى، وينذر له، ويطلب منه تفريج ا لكربات غير الله تعالى، (مميز وهذا يتبين بأمرين عظيمين:
الأول: توحيد الربوبية ) ، وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو ، وهذا حق.
ولكن أعظم الكفار كفراً الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به، ولم يدخلهم في الإسلام ، كما قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فيسقولون الله فقل أفلا تتقون} فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم، وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله ،كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وفي الآية الأخرى : {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}" ثم قال: "فإذا تحققت أنَّ العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين، وعرفت أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام ومن اعتقد في الصالحين ، بل قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم تبين لك حقيقة دين الإسلام.
(مميز وعرفت الأمر الثاني: وهو توحيد الإلهية: ) وهو أنه لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعي في الرخاء والشدائد إلا هو ، ولا يذبح إلا له ، ولا يعبد بجميع العبادات إلا لله وحده لا شريك له ، وأن من فعل ذلك في نبي من أنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله ، وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به ، كتبرؤ عيسى من النصارى ، وموسى من اليهود ، وعليّ من الرافضة، وعبد القادر من الفقراء". الدرر السنية(8/97-100) ، وانظر: (8/87-89) فإنه مهم.
وقال في الخطب (ص/56) : [فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها ، وعمل باطناً وظاهراً بمقتضاها ، فيكون قد حقق لا إله إلا الله ، وويل لمن صاده الشيطان بالأشراك ، فرماه في هوة الإشراك ، فأبى واستكبر عن الانقياد لـ"لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ". ألم تسمعوا قول الله { ولا يملكُ الذين يَدْعونَ مِن دونهِ الشفاعةَ إلا مَن شهِدَ بالحقّ وهم يعلمون } حقيقةَ لا إله إلا الله . الذي هو إفراده بجميع العبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات . ونفيها عما سواه من جميع المعبودات . التي نفتها لا إله إلا الله . وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله . الذي لا يبقى في القلب شيئاً لغير الله . ولا إرادة لما حرّم الله . ولا كراهة لما به أمر الله . هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله . وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله . فمن صرف لغير الله شيئاً من العبادات . وأشرك به أحداً من المخلوقات . فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله . قيل للحسن رحمه الله تعالى : إن أناساً يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله . وقال ابن منبه لمن قال له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله . قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك لأنك في الحقيقة لم تقل لا إله إلا الله . فيا ذوي الأسماع العتيدة ، لا تظنوا أُمور الشرك منكم بعيدة . فإن هاهنا مهاو شديدة .
تقدح في لا إله إلا الله . أين من وحّد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة . أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده . كل هذا من معاني لا إله إلا الله .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُم اللهُ- في تيسير العزيز الحميد(ص/100) : "ومعنى "الكفر بالطاغوت" : هو خلعُ الأندادِ والآلهة التي تدعى من دون الله من القلب ، وترك الشرك بها رأساً، وبغضه وعداوته.
ومعنى الإيمان بالله: هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام ، المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى ، وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح ، وهو حقيقة شهادة أنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له".
وقال -رحمَهُ اللهُ- (ص/54) : "فهذا هوَ معنَى "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" وهوَ عبادَةُ اللهِ، وتَرْكُ عبادَةِ ما سِواهُ وهو الكفْرُ بالطَّاغُوتِ والإيْمَانُ باللهِ .
فتَضَمَّنَتْ هذهِ الكلمةَ العظيمةَ أنَّ ما سِوَى اللهِ ليسَ بإلَهٍ ، وأنَّ إلَهِيَّةَ ما سِواهُ أبطلُ الباطلِ ، وإثباتَهَا أظلَمُ الظُّلْمِ ، فلا يستَحِقُّ العبادةَ سواهُ ، كما لا تصْلُحُ الإلَهِيَّةُ لغيْرِهِ.
فتَضَمَّنَتْ نفيَ الإلَهِيَّةِ عمَّا سواهُ ، وإثباتَهَا لهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ، وذلكَ يستلزِمُ الأمْرَ باتِّخَاذِهِ إلَهاً وحدَهُ ، والنَّهْيَ عنِ اتِّخاذِ غيْرِهِ معَهُ إلَهاً ، وهذا يفهَمُهُ المخاطَبُ مِنْ هذا النَّفْيِ والإثباتِ ، كما إذا رأيتَ رجلاً يَسْتَفْتِي أو يَسْْتَشْهِدُ مَنْ ليسَ أهلاً لذلكَ ، ويَدَعُ مَنْ هوَ أهلٌ لَهُ فتقولُ : هذا ليسَ بِمُفْتٍ ولا شاهدٍ ، الْمُفْتِي فلانٌ ، والشَّاهِدُ فلانٌ ، فإنَّ هذا أمْرٌ منْهُ ونَهْيٌ.
وقدْ دخلَ في الإلَهِيَّةِ جميعَ أنواعِ العبادةِ الصَّادرةِ عنْ تألُّهِ القلبِ للهِ بالحبِّ والخضوعِ والانقيادِ لهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، فيجبُ إفرادُ اللهِ تعالى بها ؛ كالدُّعاءِ والخوفِ والمحبَّةِ والتَّوكُّلِ والإنابةِ والتَّوبةِ والذَّبحِ والنَّذرِ والسُّجودِ ، وجميعِ أنواعِ العبادةِ ، فيجبُ صرفُ جميعِ ذلكَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، فمنْ صرفَ شيئاً مِمَّا لا يصلُحُ إلاَّ للهِ منَ العباداتِ لغيرِ اللهِ فهوَ مُشركٌ ولو نَطَقَ "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" إذْ لم يعملْ بما تقتضيهِ منَ التَّوحيدِ والإخلاصِ".
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "ويدخلُ في الكفرِ بالطَّاغوتِ بغضُهُ وكراهَتُهُ ، وعدمُ الرِّضَى بعبادتِهِ بوجهٍ منَ الوجوهِ" تيسير العزيز الحميد(ص/34).
(شعر فتبين مما سبق أن الكفر بالطاغوت يكون بتجريد التوحيد لله -عزَّ وجلَّ- ، وتجريد المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ، والبعد عن نواقض الإيمان القولية والعملية والاعتقادية. )
(مميز ولكن لا بد من التنبيه على أن ثمة أمور يطلق عليها لفظ الطاغوت وهي ليست من الأمور المخرجة من الملة على الإطلاق، وإنما في حالات معينة، فالكفر بها يكون باعتقاد بطلانها وإن ارتكبها عملياً. )
مثلاً: يقول شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(16/565-566) –معرفاً الطاغوت- : "(مميز وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان والوثن والكهان والدرهم والدينار وغير ذلك)".
فحب الدينار والدرهم إذا أدى إلى ارتكاب محرم كالتسخط وعدم الصبر يكون طاغوتاً، والكفر به يكون باعتقاد أن ما ترتب على ترك الواجب محرم شرعاً ، وأنه مفرِّط ومقصر حيث أحب المال حتى أوقعه في الحرام ، وإن كان باقياً على فعله المحرم –التسخط وعدم الصبر- الذي تسبب به حب الدينار والدرهم.
(مميز فبهذا المثال-والأمثلة كثيرة- يتضح أن من الطواغيت ما يكون الكفر بها باعتقاد بطلانها وبطلان ما ترتب عليه ، وهذا حد فاصل بين الإيمان والكفر.
أما ما ترتب عليها من تقصير في الفعل –وهذا التقصير- لا يخرج من ملة الإسلام فهذا يكون قد قصر في واجب وارتكب محرماً دون الحكم عليه بالكفر والشرك والردة. )
وبالنظر في الشبهات التي أوردها المقدسي ليكفر بها عموم حكام المسلمين –زوراً وبهتاناً- يظهر أنه جعل أموراً مما يصح إطلاق الطاغوت عليها ولكنها لا تخرج من ملة الإسلام .
من ذلك : تحكيم القوانين الوضعية دون استحلال أو استكبار عن الشرع أو استخفاف به، أو احتقار له، أو عناد له. وسيأتي الكلام على مسألة الحكم بغير ما أنزل الله مفصلاً -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
ومن ذلك : أنه يجعل الروابط بين الدول المسلمة مع الدول الكافرة ، والمعاهدات والمواثيق من المودة والمحبة والأخوة !!
ويظن المقدسي أن الدخول مع الكفار في مواثيق يرجع إليها يكون من الحكم بغير ما أنزل الله!
قال المقدسي: " ومعلوم أن هؤلاء الحكام لا يكفرون بطواغيت الشرق والغرب ولا يتبرؤون منهم بل هم بهم مؤمنون تولّوهم وتحاكموا إليهم في فضِّ الخصومة والنزاع وارتضوا أحكامهم الكفرية وقوانينهم الدولية في ظل هيئة اللمم (الأمم) ومحكمتها الكفرية
وكذلك الطواغيت العربية وميثاقهم الشبيه بميثاق الأمم الملحدة الكافرة الدولي فهم لجميع أولئك الطواغيت أحباب وأولياء وعبيد لم يجتنبوهم ولم يجتنبوا نصرتهم ومظاهرتهم على شركهم، حتى يخرجوا من الشرك الذي قد ولجوا فيه ومن ثم يحكم لهم بالإسلام
بل تجمع بينهم روابط الأخوة والصداقة والمودة ويجمع بينهم ميثاق الأمم المتحدة!! الكفري ويحتكمون عند الخصومة إلى محكمتها الكفرية التي مقرها في لاهاي".
(مميز وهذا كذب وباطل ، وسيأتي تفنيده -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- . )
(مميز ولكن أنبه على أمور: )
(مميز الأمر الأول: ) أن المقدسي يظن أن وجود الأحلاف والمعاهدات بين المسلمين والكفار يتعارض مع الكفر بالطاغوت (مميز وهذا جهل عظيم يلزم منه سب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتنقص منه. )
فقد صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود في المدينة ، وكتب بينهم عهداً يتضمن النصرة ، وكذلك كان بينه وبين خزاعة عهد على النصرة، وكذلك كان بينه وبين مشركي قريش معاهدة وصلح ولم يستلزم كل ذلك الإيمان بالجبت والطاغوت، ولم يستلزم عدم الكفر بالطاغوت.
فهل يقول مسلم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تجمعه مع اليهود والمشركين المحبة والمودة والأخوة لأنه تحالف معهم؟
ألا يعقل هذا الحروري أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- صالح أهل مكة على أنه إذا جاء موحد من مكة وهاجر إلى المدينة فطلبه أهله أنه يلزم من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفق المعاهدة أن يسلمه إليهم؟!!
وقد سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشركين اثنين من كبار الموحدين وهما أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وأبو بصير -رضي الله عنهم- .
(مميز فهل صلح الحديبية عند الخوارج مما يناقض الكفر بالطاغوت؟!!
نعوذ بالله من هذا . )
(مميز الأمر الثاني: ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)).
فهذا حلف في الجاهلية ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنه لو يدعى لمثله في الإسلام لأجاب، فهذا أصل في المعاهدات والمواثيق بين الأمم إذا لم تكن تلك المواثيق مخالفة للشرع.
وكذلك قد صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً زمن الحديبية وكتبوا ميثاقاً للصلح تضمن بنوداً شديدة على المسلمين إلا أنها كانت فتحاً كما سماها الله .
فقد يكون في بعض المواثيق مع الكفار إجحاف وظلم للمسلمين ، ولكن يرى ولاة أمور المسلمين أن الدخول في تلك المعاهدات يكف عنهم شراً ، أو يخففه عنهم فلهم ذلك .
وعلى جواز الأحلاف والمواثيق مع الكفار بما لا يخالف الشرع ، وبما يدفع عن المسلمين الشر والبلاء –وإن كان في ظاهره قد يظنه قاصروا النظر أنه مخالف للشرع- جرى عمل المسلمين قديماً وحديثاً في جميع دول العالم.
(مميز الأمر الثالث: ) أن المقدسي عنده جهل عظيم فيظن أنَّ أيَّ قانون يخالف عقله وهواه فإنَّه حرام وإيمان بالطاغوت!!
(مميز ومشكلة المقدسي أنَّهُ غارق في الجهل ؛ فيحرم ما أباح الله وشرعه، ويجعله من الأمور المكفرة. )
وهذا يذكرنا بذاك الرجل الذي اعترض على النبي -صلى الله عليه وسلم- لظنه أنه خالف الشرع!!
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة فقال: يا رسول الله ، اعدل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أعدل))
فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: يا رسول الله ، ائذن لي فيه، أضرب عنقه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية...)) الحديث.
فاعتراض المقدسي من جنس اعتراض هذا الرجل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- {تشابهت قلوبهم}.
(مميز ومعلومٌ أنَّ الخوارجَ فارقوا أهلَ السُّنَّةِ، وغَلِطُوا في عدةِ أمورٍ وهي: ظَنُّهُمْ ما ليسَ بِذَنْبٍ أنَّهُ ذنْبٌ ، وتَكْفِيْرُهُمْ بِذُنُوبٍ لا يكفرُ مرتَكِبُها ، والحكمُ على الْمُعَيَّنِ بألفاظِ الوعيدِ العامَّةِ دونَ النَّظَرِ في ضوابطِ التَّكْفِيْرِِ. )
(شعر انتهى الفصل الثاني والحمد لله رب العالمين.)
(شعر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد . )
(شعر كتبه: أبو عمر أسامة بن عطايا العتيبي. )
(شعر ###############################
)
(شعر الهوامش الحواشي للمواضع التي لم يسبق عزوها )
(1)- سورة الذاريات(آية/56).
(2) - رَ : القاوس المحيط(ص/379) ، وفتح القدير للشوكاني(5/93).
(3)- العبودية(ص/33).
(4)- تفسير ابن كثير(ص/28).
(5)- مجموع الفتاوى(4/235).
(6)- العبودية(ص/23)، ومجموع الفتاوى(10/149).
(7) - سورة فاطر(آية/15-17).
(8)- رَ : تيسير العزيز الحميد(ص/47) .
(9)- مجموع الفتاوى(20/6-7).
(10) - سورة الزخرف(آية/45).
(11)- سورة الأنبياء(آية/25) .
(12)- سورة النحل(آية/36).
(13) - مجموع الفتاوى(1/154).
(14) - رَ : العبودية لشيخِ الإسلامِ(ص/44-45) .
(15) - العبودية(ص/145).
(16) - رَ : أحكام القرآن للقرطبي(17-56) ، زاد المسير لابن الجوزي(8/42) ، فتح القدير للشوكاني (5/92) ، وتيسير العزيز الحميد(ص/47) .
(17) - رَ : طريق الوصول إلى العلم المأمول(ص/23-المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي).
(18) - رَ : العبودية(ص/132-134) ، مجموع الفتاوى(10/194-195).
(19)- عدة الصابرين(ص/186) وانظر: إغاثة اللهفان(2/149) ، وفتح الباري(11/254)، فيض القدير(5/276)
الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت)
(شعر الفصل الثاني)
(شعر معنى الكفر بالطاغوت وكيفية تحقيقه وبيان تلبيسات المقدسي في ذلك.)
لقد تخبط المقدسي في معنى الكفر بالطاغوت، وجعل بعض الأمور المشروعات من عبادة الطاغوت، وجعل ما هو معصية عبادة للطاغوت وخروجاً عن ملة الإسلام.
وهذا التخبط نشأ عن جهله بمعنى العبادة التي خلق الله الجن والإنس لها، ومن ثم جهله بكيفية صرفها لغير الله.
وفي هذا الفصل سأبين معنى العبادة ، ومتى يكون العبد صارفاً العبادة لغير الله ، وبينت معنى الكفر بالطاغوت عند أهل السنة والجماعة .
(شعر أولاً: معنى العبادة ومتى يكون العبد صارفاً العبادة لغير الله. )
لقد خلق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الخلقَ لغايةٍ حميدةٍ ، ولأمرٍ عظيمٍ ألا وهو توحيدُ اللهِ وعبادتُهُ وطاعتُهُ ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(1)
فقدْ ذكرَ اللهُ في هذه الآيةِ الكريةِ الحكمةَ منْ خلقِ الجنِّ والإنسِ ألا وهي العبادةُ.
(مميز تعريف العبادة: )
(مميز العبادةُ في اللُّغَةِ ) مأخوذةٌ من التَّذَلُّلِ والافتقارِ ؛ يقال: طريقٌ معبدٌ أيْ: مُذَلَّلٌ(2)
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْميَّةَ-رحمهُ اللهُ- : والعبادة أصل معناها الذل يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام (3)
وقال ابنُ كَثِيرٍ-رحمهُ اللهُ- : العبادةُ في اللُّغَةِ منَ الذِّلَّةِ ، يُقالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ وبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ أيْ: مُذَلَّلٌ(4).
(مميز وأما في الشَّرعِ : فهي طاعةُ اللهِ بامتِثَالِ ما أمرَ به ، واجتنابِ ما نَهَى عنهُ. )
قال شيخُ الإسلامِ: "والإجابةُ والاستجابةُ: هي طاعةُ الأمرِ والنَّهي ، وهي العبادةُ التي خُلِقَ لها الثَّقلانِ كما قال تعالى:{وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون}"(5).
وقال –أيضاً-: العبادةُ اسمٌ جامعٌ لِمَا يحبهُ الله ويرضاهُ مِنَ الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظاهرةِ(6)
(مميز وأصلُ العبادةِ: التَّذَلُّلُ والخضوعُ ، ولذا سُمِّيَتْ وظائفُ الشَّرعِ على المكلَّفينَ عباداتٍ لأنَّهُم يلْتَزِمُونها ويفعلُونَها بِخُضُوعٍ وتذلُّلِ وافتِقارٍ للهِ تعالى. )
والمقصودُ بالآيةِ: أنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّهُ ما خلقَ الإنسَ والجنَّ إلا لعبادتِهِ ، فهذه هي الحكمةُ منْ خَلقِهم ، ولم يُرِدْ منهم ما تريدُهُ السَّادَةُ منْ عبيدِها منَ الإعانَةِ لهم بالرَّزْقِ والإطعامِ ، بل إنَّ اللهَ هو الرَّزَّاقُ ذو القوَّةِ المتينُ ، الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ ، وهو الغنيُّ بذاتِهِ سبحانَهُ ، لا تنفعُهُ طاعةُ المطِيعِ ، ولا تَضُرُّهُ معصيةُ عاصٍ ، بلِ الخلقُ مفْتَقِرونَ مُحْتاجُونَ إليهِ ، {يا أيَّها النَّاسُ أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ* إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ*وَمَا ذَلكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ}(7).
وعبادتُهُ هي طاعتُهُ بِفِعْلِ المأمُورِ وتَرْكِ المَحْظُورِ وذلك هو حقيقةُ دينِ الإسلامِ لأنَّ معنى الإسلامِ : هو الاستسلامُ لله تعالى المتضَمِّنُ غايةَ الانقيادِ في غايةِ الذُّلِّ والخضوعِ(8).
(مميز ومَبْنى العبادةِ على الذُّلِّ والخُضُوعِ ، المقرونِ بالحُبِّ لأعظمِ محبوبٍ ألا وهو الربُّ -سبحانه وتعالى-. )
وقال شيخُ الإسلامِ: فالدَّعوةُ والعبادةُ : اسمٌ جامعٌ لغايةِ الحبِّ للهِ وغايةِ الذُّلِّ لَهُ، فَمَنْ ذلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لم يكن عابِداً ، بل يكونُ هو المحبوبُ المطلقُ ؛ فلا يُحِبُّ شيئاً إلا لَهُ (9).
فتأمل قول شيخ الإسلام : " فَمَنْ ذلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لم يكن عابِداً" لتعلم أن الحب شرط أساسي في التعبد وإذا اختل لم يكن فاعل ذلك العمل عابداً.
(مميز والعبادة: هي توحيدُ الله بكلِّ ما يختَصُّ بِهِ تعالى. )
(مميز فهو المعبودُ بتوحيدِهِ في إلهيتِهِ ، وفي أسمائِه وصفاتِهِ ، وفي رُبُوْبِيَّتِهِ. )
"وهذا الأصلُ ؛ وهو التَّوحِيدُ: هو أصلُ الدِّينِ ، الذي لا يَقبلُ الله من الأولينَ والآخرينَ دِيناً غيرَهُ ، وبهِ أرسلَ الله الرُّسُلَ ، وأنْزَلَ الكتُبَ ؛ كما قال تعالى: {وسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحمنِ آلهةً يُعْبَدُونَ}(10) ،
وقالَ تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلا أنّا فَاعْبُدُونِ}(11) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اعْبُدُوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلِيهِ الضَّلالَةُ}(12) ،
وقد ذكرَ الله -عزَّ وجَلَّ- عن كلٍّ مِنَ الرُّسُلِ أنَّهُ افتَتَحَ دعوتَهُ بأنْ قالَ لقومه : {اعْبُدُوا اللهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}" (13)
وهذه العبادةُ مُتعَلِّقَةٌ بإلهيتِهِ تعالى ، ولهذا كانَ عنوانُ التَّوحيدِ وأساسُهُ "لا إِلَهَ إلا اللهُ" بخلافِ مَنْ يقرُّ برُبوبيتهِ ، ولا يَعْبُدُه ويوحِّدُهُ ، أو يعبُدُ معهُ إلهاً آخرَ .
فالإلَهُ : هو الَّذِي يألَهُهُ القلبُ بكمالِ الْحُبِّ والتَّعظيمِ ، والإجْلالِ والإكْرامِ، والخوفِ والرَّجاءِ ، ونحوِ ذلكَ.
وهذه العبادةُ هي التى يُحِبُّها اللهُ ويَرْضاها ، وبها وَصَفَ المصْطَفَيْنَ مِن عبادِهِ، وبها بعثَ رسُلَهُ.
وأمَّا العبدُ بمعنى الْمُعَبَّدِ -سواءٌ أقَرَّ بذلك أم لم يُقِرَّ- فهذا المعنى يشتَرِكُ فيه المؤمنُ والكافرُ (14).
وكلُّ ما سوى اللهِ مخلوقٌ مربوبٌ (مميز فالتَّعَبُّدُ للهِ له مَعنيانِ :
المعنى الأول: التَّعَبُّدُ العامُّ )، وهذا لكلِّ ما سوى الله من جنٍّ ، وإنسٍ ، وملائكةٍ، وأنعامٍ ، وبهائمَ ، وجماداتٍ ، وغيرها .
قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِيْنِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}
"فذكرَ إسلامَ الكائناتِ طوعاً وكرهاً ؛ لأنَّ المخلوقاتِ جميعَهَا متعَبّدَّةٌ لَهُ التَّعَبُّدُ العامُّ ، سواءٌ أقرَّ الْمُقِرُّ بذلك أو أنكره ، وهم مَدينُون له ، مدَبَّرُونَ ، فهم مسلمون له طَوعاً وكَرهاً ، ليس لأحدٍ منَ المخلوقاتِ خروجٌ عمَّا شاءَهُ وقدَّرَهُ وقضاه ، ولا حول ولا قوَّةَ إلا به ، وهو ربُّ العالمين ومليكُهم ، يُصَرِّفُهم كيفَ يشاءُ ، وهو خالِقُهُم كلِّهِم وبارِؤُهُم ومصَوِّرُهُم .
كلُّ ما سواهُ فهو مربوبٌ ، مصنوعٌ ، مفطورٌ ، فقيرٌ ، محتاجٌ ، معبَّدٌ ، مقهورٌ ، وهو سبحانه الواحدُ ، القهَّارُ ، الخالقُ ، البارئُ ، المصوِّرُ" (15)
(مميز المعنى الثاني: التَّعَبُّدُ الخاصُّ )، وهو التَّعَبُّدُ المتَعَلِّقُ بالأمرِ والنَّهيِ ، وجعلَ اللهُ فيه للعابدِ الاختيارَ ، وهذا خاصٌّ بالجنِّ والإنسِ .
قال تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدونِ}.
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- في الآية : إلا لآمرهمْ أنْ يعبدونِي ، وأدعوهم إلى عبادتِي . وقال مجاهد: إلا لآمرَهم وأنهاهم (16).
(مميز وهذه العبادةُ الخاصَّةُ الْمَبْنِيَّةُ على كمالِ الحبِّ والتَّعظيمِ ، والاجلالِ والاكرامِ، والخوفِ والرجاءِ ، ونحوِ ذلك ؛هي التي يتَحصَّلُ بِها العبدُ على تمامِ اللذَّةِ ، والسرورِ ، والسعادةِ ، والْحُبورِ. )
فالقلبُ لا يَصْلُحُ ، ولا يُفلِحُ ، ولا يلْتَذُّ ، ولا يُسَرُّ ، لا يطيبُ ، ولا يسكُنُ ، ولا يطمئنُّ إلا بعبادةِ ربِّهِ ، وحُبِّهِ ، والإنابةِ إليه ، ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به منَ المخلوقاتِ لم يطمئنَّ ، ولم يسكن ؛ إذْ فيه فقرٌ ذاتِيٌّ إلى ربهِ ، ومن حيثُ هو
معبودُهُ ، ومحبوبُه ، ومطلوبُه ، وبذلك يحصلُ له الفرحُ ، والسرورُ ، واللذَّةُ ، والنِّعمةُ ، والسُّكونُ ، والطمأنينةُ.
وهذا لا يحصلُ له إلا بإعانةِ الله لَهُ ، فإنَّه لا يقدرُ على تحصيلِ ذلك له إلا اللهُ ، فهو دائماً مفتقرٌ إلى حقيقةِ {إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} فإنَّهُ لو أُعينَ على حصولِ ما يُحِبُّهُ ويَطْلُبُهُ ويشتَهِيْهِ ويريدُه ، ولم يحصلْ له عبادةُ لله فلنْ يحصلَ إلا على الألَمِ، والحسْرَةِ ، والعذابِ ، ولنْ يَخْلُصَ من آلام الدنيا ، ونكدِ عيشِها إلا بإخلاصِ الحبِّ لله بحيثُ يكونُ هو غايةُ مرادِهِ ، ونهايةُ مقصودِهِ ، وهو المحبوبُ له بالقصدِ الأوَّلِ ، وكلُّ ما سواهُ إنَّما يحبهُ لأجلِهِ ، لا يحبُّ شيئاً لذاتهِ إلا الله .
فمتى لم يحصلْ له هذا ؛لم يكنْ قد حقَّقَ حقيقةَ "لا إله إلا الله"، ولا حقَّقَ التَّوحيدَ، والعبوديةَ، والمحبةَ لله، وكان فيه من نقصِ التوحيدِ والإيمانِ، بل من الألم والحسرةِ والعذابِ بحسَبِ ذلك ، ولو سَعَى في هذا المطلوبِ ولم يكنْ مستعيناً بالله متوكلاً عليه ، مفتقراً إليه في حصولِهِ ؛ لم يحصلْ له ، فإنَّهُ ما شاءَ الله كانَ ،
وما لم يشأْ لم يكنْ ، فهو مفتقرٌ إلى الله ؛ من حيثُ هو المطلوبُ ، المحبوبُ ، المرادُ ، المعبودُ ، ومن حيثُ هو المسؤولُ ، المستعانُ بِهِ ، الْمُتَوَكَّلُ عليه، فهو إلههُ لا إلهَ لَهُ غَيْرُهُ ، وهو ربُّهُ لا ربَّ سواهُ .
ولا تَتِمُّ عبوديتُهُ لله إلا بهذين(17)؛ فمتى كان يحبُّ غيرَ الله لذاتِهِ ، أو يلتفتُ إلى غير الله أنَّهُ يعينُهُ ؛ كان عبداً لما أحبَّهُ ، وعبداً لما رجاهُ ؛ بحسب حُبهِ له ، ورجائِهِ إيَّاه ، وإذا لم يحبَّ أحداً لذاته إلا اللهَ ، وأيَّ شيءٍ أحبَّهُ سواه فإنَّما أحبَّهُ لَهُ ، ولم يرجُ قطُّ شيئاً إلا اللهَ ، وإذا فعلَ ما فعلَ من الأسبابِ ، أو حصَّلَ ما حصَّلَ منها كان مشاهِداً أن الله هو الذي خلقها ، وقدَّرَها ، وسخَّرَها له ، وأنَّ كلَّ ما في السماواتِ والأرضِ فاللهُ ربُّه ، ومليكُه ، وخالقُه ، ومسخِّرُهُ ، وهو مفْتَقِرٌ إليه ؛ كان قد حصَلَ له من تمامِ عبوديتِه لله بحسبِ ما قُسِمَ له مِنْ ذلك .
والناسُ في هذا على درجاتٍ متفاوتةٍ لا يُحصِي طرفَيْها إلا الله ؛ فأكملُ الخلقِ ، وأفْضَلُهُم ، وأعلاهم ، وأقربُهم إلى اللهِ ، وأقواهم ، وأهداهم : أتَمُّهُم عبوديةً لله منْ هذا الوجهِ .
وهذا هو حقيقةُ دينِ الإسلامِ الذي أرسلَ الله به رسلَهُ ، وأنزلَ به كتبَهُ ؛ وهو أنْ يستسلمَ العبدُ لله لا لغيْرِهِ . فالمستَسْلِمُ لهُ ولغيرهِ مشركٌ ، والممتنعُ عن الاستسلامِ له مستَكْبِرٌ(18).
(مميز فتبينَ مما سبقَ أنَّ الغايةَ من خلقِ الخلقِ ؛ عبادةُ الله وحدَهُ ، والغايةَ منْ إرسالِ الرسلِ ؛ هو تعريفُ الناسِ بالعبادةِ التي خُلِقوا من أجلِها . )
فلا يحققُ العبدُ الغايةَ من خلقِهِ إلا (مميز بتحقيقِ أمرينِ:
الأمرُ الأولُ : ) إخلاصُ العبادةِ للهِ ، وهو مقتَضَى شهادةِ ألا إله إلا الله .
(مميز الأمرُ الثاني : ) متابعةُ الرسولِ الذي بعثَهُ الله لنا لتحقيقِ العبوديةِ ، وهو مقتضَى شهادةِ أنَّ محمداً رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- .
وتبين أن العبادة مبناها على الحب ، والخضوع والخوف والرجاء لذات المعبود.
(مميز أما إذا كان الفعل ليس لذات المعبود حباً وخوفاً ورجاءً ، وإنما لدفع ضرر أو لشهوة عارضة أو لتحقيق مطمع فلا يكون عبادة إلا إذا كان القول أو الفعل ناقضاً يخرج من الإسلام فحينئذ ينخلع أصل الحب والرجاء والخوف من قلب العبد فيخرج من الإسلام ، ويصير عابداً لهواه وإن زعم خلاف ذلك فالله يعلم السر وأخفى . )
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- ذاكراً بعض الفوائد من سورة الفاتحة : " { إياك نعبد } أي أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث : بمحبتك ، ورجائك ، وخوفك . فهذه الثلاث أركان العبادة ، وصرفها لغير الله شرك . وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منهن ، كمن تعلق بالمحبة وحدها أو تعلق بالرجاء وحده أو تعلق بالخوف وحده ، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك . "
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "فإن قيل : فما الجامع لعبادة الله وحده ؟ قلت : طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . فإن قيل : فما أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله تعالى ؟ قلت : من أنواعها الدعاء والاستعانة ، والاستغاثة ، وذبح القربان ، والنذر ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والإنابة ، والمحبة ، والخشية ، والرغبة والرهبة ، والتأله ، والركوع ، والسجود ، والخشوع ، والتذلل ، والتعظيم الذي هو من خصائص الإلهية" ثم ذكر أدلتها ثم قال: " فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله تعالى فقد أشرك بالله غيره .
فإن قيل : فما أجل أمرٍ أمرَ الله به ؟ قيل : توحيده بالعبادة ، وقد تقدم بيانه . وأعظم نهي نهى الله عنه الشرك به ، وهو أن يدعو مع الله غيره أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة . فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه رباً وإلهاً وأشرك مع الله غيره ، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة . وقد تقدم من الآيات ما يدل على أن هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه وأنكره على المشركين . وقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيداً } ، وقال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } والله أعلم " انتهى كلامه -رحمَهُ اللهُ- .
(شعر وبعد بيان معنى العبادة، وما هو مبناها وأصلها ولبُّها ، وذكر أهم أنواعها أتكلم عن دليل يستدل به الخوارج يلبسون به على عباد الله. )
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة؛ إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه ؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع))رواه البخاري في صحيحه(3/1057-البغا).
وقد ظن بعض الناس أن العبودية الواردة في هذا الحديث "للدينار والدرهم والخميصة والخميلة" هي كعبادة الأوثان والأصنام مطلقاً.
(مميز وهذا باطل، بل هذا التعبد قد يكون شركاً أصغر وقد يكون شركاً أكبر. )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- "إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلاً عظيماً، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان ، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص ، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ، (مميز ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، )
وفى الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط)) فسماه النبي عبدَ الدرهم، وعبدَ الدينار، وعبدَ القطيفة، وعبدَ الخميصة، وذكر ما فيه دعاء وخبر ، وهو قوله: ((تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) والنقش: إخراج الشوكة من الرِّجْلِ، والمنقاشُ: ما يخرج به الشوكةُ. وهذه حال من إذا أصابه شرٌّ لم يخرج منه، ولم يفلح ، لكونه تعس وانتكس ، فلا نال المطلوب ، ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال..." مجموع الفتاوى(10/180) .
وقال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : "جعلَهُ عَبْدَ ما يرضيه وجودُهُ، ويسخطُهُ فقدُهُ، حتى يكون عبد الدرهم وعبدَ ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة هي التي يجلس عليها فهو خادمها، كما قال بعض السلف: البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة: هي التي يرتدي بها،
وهذا من أقل المال، وإنما نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلى منه، فهو عبدٌ لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون ، ولهذا قال: ((إن أُعْطِيَ رضي وإنْ منع سَخِطَ)) فما كان يرضي الإنسانَ حصولُهُ ، ويسخطُهُ فقدُهُ فهو عَبْدُهُ إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما، والمعبود الحق الذي "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" إذا عبَدَهُ المؤمنُ وأحبَّه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان وتوحيد ومحبة وذكر وعبادة ، فيرضى بذلك ، وإذا منع من ذلك غضب ، وكذلك من أحب شيئاً فلا بد من أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان قال الجنيد: لا يكون العبد عبداً حتى يكون مما سوى الله تعالى حراً.
وهذا مطابق لهذا الحديث ، فإنه لا يكون عبداً لله خالصاً مخلصاً دينَهُ لله كلَّه حتى لا يكون عبداً لما سواه، ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله، فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عَبْدٌ لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته وعبادته لذلك الغير" مجموع الفتاوى(10/597-598).
وقال الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمَهُ اللهُ- : "فمنْ لم يتحققْ بعبودية الرحمن وطاعتِه فإنه يعبدُ الشيطانَ بطاعته له، ولم يَخْلَصْ من عبادةِ الشيطان إلا من أخلصَ عبوديةِ الرحمن ، وهم الذين قال فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} فهم الذين حققوا قول: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ ، وأخلصوا في قولها ، وصدَّقوا قولهم بفعلهم، فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا ، وهم الذين صدَقوا في قول: لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ ، وهم عباد الله حقاً ، فأمَّا من قال: "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ بلسانه ، ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته؛ فقد كذَّبَ فعلُهُ قولَهُ ، (مميز ونقصَ منْ كمالِ توحيدِهِ بقدر معصيةِ الله في طاعة الشيطانِ والهوى ) ، {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}، فيا هذا كن عبدَ الله لا عبدَ الهوى ، فإنَّ الهوى يهوي بصاحبه في النارِ، {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} ، ((تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الدينار)) ، والله لا ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقَّقَ عبودية الله وحده، ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار، من علِمَ أنَّ معبودَهُ الله فردٌ فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" كلمة الإخلاص(ص/27-28) .
قال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ- : "وأقل ما في حبها أنه يلهى عن حب الله وذكره ، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين ، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان، وصرفه حيث أراد، ومن فقهه في الشر أنه يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يفعل فيها الخير، وقد تعبد لها قلبه، فأين يقع ما يفعله من البر مع تعبده لها؟! وقد لعنه رسول الله ودعا عليه ؛ فقال: ((لعن عبد الدينار والدرهم))، وقال: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، إن أعطى رضى وإن منع سخط)) وهذا تفسير منه وبيان لعبوديتها"(19).
وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام(4/174) : " أراد بعبد الدينار والدرهم من استعبدتْهُ الدنيا بطلبها، وصار كالعبد لها تتصرف فيه تصرف المالك، لينالها وينغمس في شهواتها ومطالبها.
وذكر الدينار والقطيفة مجرد مثالٍ، وإلا فكل من استعبدته الدنيا في أي أمر ، وشغلته عما أمر الله تعالى ، وجعل رضاه وسخطه متعلقاً بنيل ما يريد ، أو عدم نيله ، فهو عبده .
فمن الناس من يستعبده حب الإمارات ، ومنهم من يستعبده حب الصور، ومنهم من يستعبده حبُّ الأطيان.
واعلم أنَّ المذموم من الدنيا كلُّ ما يُبْعِدُ العبدَ عن الله تعالى، ويشغله عن واجب طاعته وعبادته، لا ما يعينه على الأعمال الصالحة مذموم ، وقد يتعين طلبه ويجب عليه تحصيله.
وقوله: ((رضي)) أيْ: عن الله بما ناله من حطامها ، ((وإن لم يعط لم يرض)) أيْ: عنه تعالى ، ولا عن نفسه فصار ساخطا ، فهذا الذي تعس لأنه أدار رضاه على مولاه ، وسخطه على نيل الدنيا وعدمه.
والحديث نظير قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه}".
وقال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمَهُ اللهُ- في القول المفيد شرح كتاب التوحيد(2/71) : " الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة . (مميز وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك ، ولكنها نوع أخر يخل بالإخلاص ) ، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة".
(شعر ثانياً: صفة الكفر بالطاغوت )
إن الكفر بالطاغوت أحد ركني شهادة لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أنِ اعْبُدُوا اللهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلِيهِ الضَّلالَةُ}، {فمنْ يكفُرْ بالطَّاغُوتِ ويؤمنْ باللهِ فقدِ استمسكَ بالعُرْوةِ الوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا واللهُ سميعٌ عليمٌ}.
(مميز والكفر بالطاغوت يكون بالقلب واللسان والجوارح : )
(مميز أما الكفر بالطاغوت بالقلب: ) فأن يعتقد أن لا ربَّ وأن لا إِلَهَ يعبد بحقٍّ إلاَّ اللهُ ، وأنَّ كلَّ ما سواه من أرباب وآلهةٍ ومعبودات فهي باطلة ، وأن يعتقد أنه لا يجوز صرف شيء من العبادة لغير الله الواحد القهار .
ويبغض الطواغيت سواء من كان كافراً منهم أو رأساً في الضلالة، ويعتقد كفر من كفره الله ورسوله .
(مميز وأما الكفر بالطاغوت باللسان: ) فيكون بالتبرؤ من الطواغيت ، والتبرؤ من عبادتها، وبمعاداة الكفار، والتبرؤ منهم.
(مميز ويكفي في الأصل النطق بالشهادة في البراءة القولية من الطاغوت إلا إذا كان متلبساً بشيء من ذلك ويكون قد لزمه البيان بعد التوبة، أو ممن رأى منكراً فيغيره بلسانه إذا لم يقم غيره بهذا الإنكار. )
(مميز وأما الكفر بالطاغوت بالجوارح: ) فهو بالابتعاد عن عبادة الطواغيت، وبعدم صرف شيء من العبادة لغير الله ، وبمجاهدة عبدة الطواغيت على قدر استطاعته.
وعلى ما سبق يدل كلام أهل العلم في تعريف الكفر، وبيان نواقض الإسلام، وبيان كيفية الكفر بالطاغوت.
(مميز وأذكر بعض النقول في ذلك. )
قال ابن كثير -رحمَهُ اللهُ- (1/312) في تفسير قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}: [من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أيْ: فقد ثبت في أمره، واستقام على الطريقة المثلى، والصراط المستقيم].
قال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : [فتبين أن الطاغوتَ يؤمنُ به، ويكفرُ به. ومعلومٌ أن مجردَ التصديقِ بوجودِهِ وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر ، فإنَّ الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر ، وقد قال الله تعالى في السحر : {حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} إلى قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له
في الآخرة من خلاق}
فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملكِ سليمانَ ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ؛ يعلمون أنَّهُ لا خَلاقَ لهم في الآخرةِ، ومع هذا فيكفرون.
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت إذا كان عالماً بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه ونحو ذلك من الجبت ، وكان عالما بأحوال الشيطان والأصنام وما يحصل بها من الفتنة ؛ لم يكن مؤمناً بها مع العلم بأحوالها.
ومعلومٌ أنَّهُ لم يعتقد أحدٌ فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء، ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوعٌ من المطالب، كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام ، وتخبرهم بأمور.
وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم ، وكان كفرهم بها الخضوعُ لها، والدعاءُ، والعبادةُ، واتخاذها وسيلة، ونحو ذلك؛ لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإنَّ هذا يعلمه العالم من المؤمنين، ويصدق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة، فيبغضه.
والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حبُّ العاجلة على الكفرِ ، يبين ذلك قولُهُ: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم * ذلك بأنَّهُمُ استحبوا الحياةَ الدنيا على الآخرةِ وأنَّ الله لا يهدى القوم الكافرين * أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} فقد ذكرَ تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه، وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} ، وبَيَّنَ تعالى أنَّ الوعيد استحقوه بهذا .
ومعلوم أنَّ باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض ، وهؤلاء –يعني بهم: الصالحي وغيره ممن وافق الجهم في مسمى الإيمان-يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمانِ من قلوبهم ، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة.
والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران ، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.
وأيضاً فإنَّهُ -سبحانه- استثني المكرَه من الكفار ، ولو كان الكُفْرُ لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأنَّ الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفرٌ لا في حال الإكراه" انظر: مجموع الفتاوى(7/558-560).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : "ومعنى الكفر بالطاغوت أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله ، من جني أو انسي أو شجر أو حجر أو غير ذلك ، وتشهد عليه بالكفر والضلال وتبغضه ولو كان أباك وأخاك.
فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله ، وأنا لا أتعرض السادة والقباب على القبور وأمثال ذلك ، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله ولم يؤمن بالله ولم يكفر بالطاغوت" مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4 / 33 .
وقال -رحمَهُ اللهُ- في كتاب التوحيد : "الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟"
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين شارحا لها: "أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية.
(مميز وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.) " القول المفيد باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمَهُ اللهُ- كما في الدرر السنية(1/161-162) : "اعلم رحمك الله تعالى أن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، والدليل قوله تعالى : {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
(مميز فأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها . وتعاديهم . )
وأما معنى الإيمان بالله فهو أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون من سواه وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله وتنفيها عن كل معبود سواه ، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم ، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم . وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها ، وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله : {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} .
والطاغوت عام ، فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع
أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت . والطواغيت كثيرة ورءوسهم خمسة :
( الأول ) : الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين } .
( الثاني ) : الحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى ، والدليل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً } .
( الثالث ) : الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . . .
( الرابع ) : الذي يدعي علم الغيب من دون الله ، والدليل قوله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } وقال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .
( الخامس ) : الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ، والدليل قوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ، كذلك نجزي الظالمين }.
واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } . الرشد دين محمد صلى الله عليه وسلم ، والغي دين أبي جهل، والعروة الوثقى شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله تعالى وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له" انتهى كلامه -رحمَهُ اللهُ- .
وقال -رحمَهُ اللهُ-: "والطاغوتُ هو الذي يسمى السيد الذي ينخى، وينذر له، ويطلب منه تفريج ا لكربات غير الله تعالى، (مميز وهذا يتبين بأمرين عظيمين:
الأول: توحيد الربوبية ) ، وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو ، وهذا حق.
ولكن أعظم الكفار كفراً الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به، ولم يدخلهم في الإسلام ، كما قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فيسقولون الله فقل أفلا تتقون} فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم، وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله ،كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} وفي الآية الأخرى : {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}" ثم قال: "فإذا تحققت أنَّ العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين، وعرفت أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام ومن اعتقد في الصالحين ، بل قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم تبين لك حقيقة دين الإسلام.
(مميز وعرفت الأمر الثاني: وهو توحيد الإلهية: ) وهو أنه لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعي في الرخاء والشدائد إلا هو ، ولا يذبح إلا له ، ولا يعبد بجميع العبادات إلا لله وحده لا شريك له ، وأن من فعل ذلك في نبي من أنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله ، وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به ، كتبرؤ عيسى من النصارى ، وموسى من اليهود ، وعليّ من الرافضة، وعبد القادر من الفقراء". الدرر السنية(8/97-100) ، وانظر: (8/87-89) فإنه مهم.
وقال في الخطب (ص/56) : [فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها ، وعمل باطناً وظاهراً بمقتضاها ، فيكون قد حقق لا إله إلا الله ، وويل لمن صاده الشيطان بالأشراك ، فرماه في هوة الإشراك ، فأبى واستكبر عن الانقياد لـ"لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ". ألم تسمعوا قول الله { ولا يملكُ الذين يَدْعونَ مِن دونهِ الشفاعةَ إلا مَن شهِدَ بالحقّ وهم يعلمون } حقيقةَ لا إله إلا الله . الذي هو إفراده بجميع العبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات . ونفيها عما سواه من جميع المعبودات . التي نفتها لا إله إلا الله . وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله . الذي لا يبقى في القلب شيئاً لغير الله . ولا إرادة لما حرّم الله . ولا كراهة لما به أمر الله . هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله . وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله . فمن صرف لغير الله شيئاً من العبادات . وأشرك به أحداً من المخلوقات . فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله . قيل للحسن رحمه الله تعالى : إن أناساً يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله . وقال ابن منبه لمن قال له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله . قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك لأنك في الحقيقة لم تقل لا إله إلا الله . فيا ذوي الأسماع العتيدة ، لا تظنوا أُمور الشرك منكم بعيدة . فإن هاهنا مهاو شديدة .
تقدح في لا إله إلا الله . أين من وحّد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة . أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده . كل هذا من معاني لا إله إلا الله .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُم اللهُ- في تيسير العزيز الحميد(ص/100) : "ومعنى "الكفر بالطاغوت" : هو خلعُ الأندادِ والآلهة التي تدعى من دون الله من القلب ، وترك الشرك بها رأساً، وبغضه وعداوته.
ومعنى الإيمان بالله: هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام ، المستلزم لإخلاص العبادة لله تعالى ، وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح ، وهو حقيقة شهادة أنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له".
وقال -رحمَهُ اللهُ- (ص/54) : "فهذا هوَ معنَى "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" وهوَ عبادَةُ اللهِ، وتَرْكُ عبادَةِ ما سِواهُ وهو الكفْرُ بالطَّاغُوتِ والإيْمَانُ باللهِ .
فتَضَمَّنَتْ هذهِ الكلمةَ العظيمةَ أنَّ ما سِوَى اللهِ ليسَ بإلَهٍ ، وأنَّ إلَهِيَّةَ ما سِواهُ أبطلُ الباطلِ ، وإثباتَهَا أظلَمُ الظُّلْمِ ، فلا يستَحِقُّ العبادةَ سواهُ ، كما لا تصْلُحُ الإلَهِيَّةُ لغيْرِهِ.
فتَضَمَّنَتْ نفيَ الإلَهِيَّةِ عمَّا سواهُ ، وإثباتَهَا لهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ، وذلكَ يستلزِمُ الأمْرَ باتِّخَاذِهِ إلَهاً وحدَهُ ، والنَّهْيَ عنِ اتِّخاذِ غيْرِهِ معَهُ إلَهاً ، وهذا يفهَمُهُ المخاطَبُ مِنْ هذا النَّفْيِ والإثباتِ ، كما إذا رأيتَ رجلاً يَسْتَفْتِي أو يَسْْتَشْهِدُ مَنْ ليسَ أهلاً لذلكَ ، ويَدَعُ مَنْ هوَ أهلٌ لَهُ فتقولُ : هذا ليسَ بِمُفْتٍ ولا شاهدٍ ، الْمُفْتِي فلانٌ ، والشَّاهِدُ فلانٌ ، فإنَّ هذا أمْرٌ منْهُ ونَهْيٌ.
وقدْ دخلَ في الإلَهِيَّةِ جميعَ أنواعِ العبادةِ الصَّادرةِ عنْ تألُّهِ القلبِ للهِ بالحبِّ والخضوعِ والانقيادِ لهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، فيجبُ إفرادُ اللهِ تعالى بها ؛ كالدُّعاءِ والخوفِ والمحبَّةِ والتَّوكُّلِ والإنابةِ والتَّوبةِ والذَّبحِ والنَّذرِ والسُّجودِ ، وجميعِ أنواعِ العبادةِ ، فيجبُ صرفُ جميعِ ذلكَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، فمنْ صرفَ شيئاً مِمَّا لا يصلُحُ إلاَّ للهِ منَ العباداتِ لغيرِ اللهِ فهوَ مُشركٌ ولو نَطَقَ "لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ" إذْ لم يعملْ بما تقتضيهِ منَ التَّوحيدِ والإخلاصِ".
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "ويدخلُ في الكفرِ بالطَّاغوتِ بغضُهُ وكراهَتُهُ ، وعدمُ الرِّضَى بعبادتِهِ بوجهٍ منَ الوجوهِ" تيسير العزيز الحميد(ص/34).
(شعر فتبين مما سبق أن الكفر بالطاغوت يكون بتجريد التوحيد لله -عزَّ وجلَّ- ، وتجريد المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- ، والبعد عن نواقض الإيمان القولية والعملية والاعتقادية. )
(مميز ولكن لا بد من التنبيه على أن ثمة أمور يطلق عليها لفظ الطاغوت وهي ليست من الأمور المخرجة من الملة على الإطلاق، وإنما في حالات معينة، فالكفر بها يكون باعتقاد بطلانها وإن ارتكبها عملياً. )
مثلاً: يقول شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- في مجموع الفتاوى(16/565-566) –معرفاً الطاغوت- : "(مميز وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان والوثن والكهان والدرهم والدينار وغير ذلك)".
فحب الدينار والدرهم إذا أدى إلى ارتكاب محرم كالتسخط وعدم الصبر يكون طاغوتاً، والكفر به يكون باعتقاد أن ما ترتب على ترك الواجب محرم شرعاً ، وأنه مفرِّط ومقصر حيث أحب المال حتى أوقعه في الحرام ، وإن كان باقياً على فعله المحرم –التسخط وعدم الصبر- الذي تسبب به حب الدينار والدرهم.
(مميز فبهذا المثال-والأمثلة كثيرة- يتضح أن من الطواغيت ما يكون الكفر بها باعتقاد بطلانها وبطلان ما ترتب عليه ، وهذا حد فاصل بين الإيمان والكفر.
أما ما ترتب عليها من تقصير في الفعل –وهذا التقصير- لا يخرج من ملة الإسلام فهذا يكون قد قصر في واجب وارتكب محرماً دون الحكم عليه بالكفر والشرك والردة. )
وبالنظر في الشبهات التي أوردها المقدسي ليكفر بها عموم حكام المسلمين –زوراً وبهتاناً- يظهر أنه جعل أموراً مما يصح إطلاق الطاغوت عليها ولكنها لا تخرج من ملة الإسلام .
من ذلك : تحكيم القوانين الوضعية دون استحلال أو استكبار عن الشرع أو استخفاف به، أو احتقار له، أو عناد له. وسيأتي الكلام على مسألة الحكم بغير ما أنزل الله مفصلاً -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
ومن ذلك : أنه يجعل الروابط بين الدول المسلمة مع الدول الكافرة ، والمعاهدات والمواثيق من المودة والمحبة والأخوة !!
ويظن المقدسي أن الدخول مع الكفار في مواثيق يرجع إليها يكون من الحكم بغير ما أنزل الله!
قال المقدسي: " ومعلوم أن هؤلاء الحكام لا يكفرون بطواغيت الشرق والغرب ولا يتبرؤون منهم بل هم بهم مؤمنون تولّوهم وتحاكموا إليهم في فضِّ الخصومة والنزاع وارتضوا أحكامهم الكفرية وقوانينهم الدولية في ظل هيئة اللمم (الأمم) ومحكمتها الكفرية
وكذلك الطواغيت العربية وميثاقهم الشبيه بميثاق الأمم الملحدة الكافرة الدولي فهم لجميع أولئك الطواغيت أحباب وأولياء وعبيد لم يجتنبوهم ولم يجتنبوا نصرتهم ومظاهرتهم على شركهم، حتى يخرجوا من الشرك الذي قد ولجوا فيه ومن ثم يحكم لهم بالإسلام
بل تجمع بينهم روابط الأخوة والصداقة والمودة ويجمع بينهم ميثاق الأمم المتحدة!! الكفري ويحتكمون عند الخصومة إلى محكمتها الكفرية التي مقرها في لاهاي".
(مميز وهذا كذب وباطل ، وسيأتي تفنيده -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- . )
(مميز ولكن أنبه على أمور: )
(مميز الأمر الأول: ) أن المقدسي يظن أن وجود الأحلاف والمعاهدات بين المسلمين والكفار يتعارض مع الكفر بالطاغوت (مميز وهذا جهل عظيم يلزم منه سب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتنقص منه. )
فقد صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود في المدينة ، وكتب بينهم عهداً يتضمن النصرة ، وكذلك كان بينه وبين خزاعة عهد على النصرة، وكذلك كان بينه وبين مشركي قريش معاهدة وصلح ولم يستلزم كل ذلك الإيمان بالجبت والطاغوت، ولم يستلزم عدم الكفر بالطاغوت.
فهل يقول مسلم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت تجمعه مع اليهود والمشركين المحبة والمودة والأخوة لأنه تحالف معهم؟
ألا يعقل هذا الحروري أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- صالح أهل مكة على أنه إذا جاء موحد من مكة وهاجر إلى المدينة فطلبه أهله أنه يلزم من النبي -صلى الله عليه وسلم- وفق المعاهدة أن يسلمه إليهم؟!!
وقد سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- للمشركين اثنين من كبار الموحدين وهما أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وأبو بصير -رضي الله عنهم- .
(مميز فهل صلح الحديبية عند الخوارج مما يناقض الكفر بالطاغوت؟!!
نعوذ بالله من هذا . )
(مميز الأمر الثاني: ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)).
فهذا حلف في الجاهلية ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنه لو يدعى لمثله في الإسلام لأجاب، فهذا أصل في المعاهدات والمواثيق بين الأمم إذا لم تكن تلك المواثيق مخالفة للشرع.
وكذلك قد صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً زمن الحديبية وكتبوا ميثاقاً للصلح تضمن بنوداً شديدة على المسلمين إلا أنها كانت فتحاً كما سماها الله .
فقد يكون في بعض المواثيق مع الكفار إجحاف وظلم للمسلمين ، ولكن يرى ولاة أمور المسلمين أن الدخول في تلك المعاهدات يكف عنهم شراً ، أو يخففه عنهم فلهم ذلك .
وعلى جواز الأحلاف والمواثيق مع الكفار بما لا يخالف الشرع ، وبما يدفع عن المسلمين الشر والبلاء –وإن كان في ظاهره قد يظنه قاصروا النظر أنه مخالف للشرع- جرى عمل المسلمين قديماً وحديثاً في جميع دول العالم.
(مميز الأمر الثالث: ) أن المقدسي عنده جهل عظيم فيظن أنَّ أيَّ قانون يخالف عقله وهواه فإنَّه حرام وإيمان بالطاغوت!!
(مميز ومشكلة المقدسي أنَّهُ غارق في الجهل ؛ فيحرم ما أباح الله وشرعه، ويجعله من الأمور المكفرة. )
وهذا يذكرنا بذاك الرجل الذي اعترض على النبي -صلى الله عليه وسلم- لظنه أنه خالف الشرع!!
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة فقال: يا رسول الله ، اعدل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ويلك ومن يعدل إن لم أعدل ، قد خبت وخسرت إن لم أعدل))
فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: يا رسول الله ، ائذن لي فيه، أضرب عنقه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية...)) الحديث.
فاعتراض المقدسي من جنس اعتراض هذا الرجل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- {تشابهت قلوبهم}.
(مميز ومعلومٌ أنَّ الخوارجَ فارقوا أهلَ السُّنَّةِ، وغَلِطُوا في عدةِ أمورٍ وهي: ظَنُّهُمْ ما ليسَ بِذَنْبٍ أنَّهُ ذنْبٌ ، وتَكْفِيْرُهُمْ بِذُنُوبٍ لا يكفرُ مرتَكِبُها ، والحكمُ على الْمُعَيَّنِ بألفاظِ الوعيدِ العامَّةِ دونَ النَّظَرِ في ضوابطِ التَّكْفِيْرِِ. )
(شعر انتهى الفصل الثاني والحمد لله رب العالمين.)
(شعر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد . )
(شعر كتبه: أبو عمر أسامة بن عطايا العتيبي. )
(شعر ###############################
)
(شعر الهوامش الحواشي للمواضع التي لم يسبق عزوها )
(1)- سورة الذاريات(آية/56).
(2) - رَ : القاوس المحيط(ص/379) ، وفتح القدير للشوكاني(5/93).
(3)- العبودية(ص/33).
(4)- تفسير ابن كثير(ص/28).
(5)- مجموع الفتاوى(4/235).
(6)- العبودية(ص/23)، ومجموع الفتاوى(10/149).
(7) - سورة فاطر(آية/15-17).
(8)- رَ : تيسير العزيز الحميد(ص/47) .
(9)- مجموع الفتاوى(20/6-7).
(10) - سورة الزخرف(آية/45).
(11)- سورة الأنبياء(آية/25) .
(12)- سورة النحل(آية/36).
(13) - مجموع الفتاوى(1/154).
(14) - رَ : العبودية لشيخِ الإسلامِ(ص/44-45) .
(15) - العبودية(ص/145).
(16) - رَ : أحكام القرآن للقرطبي(17-56) ، زاد المسير لابن الجوزي(8/42) ، فتح القدير للشوكاني (5/92) ، وتيسير العزيز الحميد(ص/47) .
(17) - رَ : طريق الوصول إلى العلم المأمول(ص/23-المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي).
(18) - رَ : العبودية(ص/132-134) ، مجموع الفتاوى(10/194-195).
(19)- عدة الصابرين(ص/186) وانظر: إغاثة اللهفان(2/149) ، وفتح الباري(11/254)، فيض القدير(5/276)
علاء.- زائر
مواضيع مماثلة
» حكم قتال الدولة الاسلامية للمقدسي
» شبهات حول التوسل وردها
» رد على بعض شبهات قصة أبرهة الحبشي .
» عتاب الطواغيت ههههههه
» سؤال ؟..الخوارج ... فرقه هل انتهت ام لاتزال موجوده
» شبهات حول التوسل وردها
» رد على بعض شبهات قصة أبرهة الحبشي .
» عتاب الطواغيت ههههههه
» سؤال ؟..الخوارج ... فرقه هل انتهت ام لاتزال موجوده
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى