نحن الوطن .. مقدسية
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
نحن الوطن .. مقدسية
بسم الله الرحمن الرحيم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
على مشارف الذكرى الملقاة في غار الحزن ، وفي تيه الواقع الباحث عن ظلال نصر وحرية ،
ألقي إليكم هذه القيثارة الحزينة :::
نحن الوطن
يستيقظ النور في سمائها قبل أي سماء ، الشمسُ تشرق من بعيد ويتسرب نورها إلى هنا ، يحط على أغصان الطهارة وينعكس في قبة السماء ألقاً ذهبياً من قبة الصخرة ، نهارها يسبق أي نهار آخر ، هكذا توقعت المشهد في ذهن ابن جارنا (عزات) ، الطفل الصغير (أحمد) اعتاد أن يصلي مع والده الفجر كل يوم في المسجد الأقصى ، وكعادتنا أيضاً نجلس حتى شروق الشمس هناك في الساحات المباركات ثم ننصرف كل إلى عمله ، الفرحة الغامرة التي كانت تملأ وجه (أحمد) هي ما دفعني إلى متابعته كل صباح ، رأيت في قسماته تحت شعاع النور المذهب أحلاماً لا بد أنه يحدث بها نفسه ، ملامحه البريئة لم تستطع أن تخفي ما يرسمه في تفكيره ، وظلال الآمال وضعت على وجنتيه أجنحتها فبدت لكل مشاهد . نخرج بعد أن ينقضي هروب الليل من ساحات الأقصى وتنتشر جموع الضياء ، نسير في طرق القدس القديمة وقد بدأت تتنفس فيها خطى قليلة لمارة سيكثرون مع الساعات القادمة ، بعض المحالّ تعد على أصابع اليدين فتحت أبوابها ، بعد أن ننثني من باب المسجد ونبدأ عبور الطريق يفلت (أحمد) من يد والده وينطلق وحده عائداً إلى المنزل في بلدة (سلوان) جنوب المسجد الأقصى ، قلما تركه والده ينطلق على سجيته ، وكثيراً ما ناداه: لا تسرع يا ولد ، انتبه لكي لا تضيع ، تمهل يا بني ... و(أحمد) الذي لا يسكت إلا في لحظات تأمله لقبة الصخرة مع إشعاعات الشروق الأولى يلتفت إلينا: أبي ، إلى متى ستظل تخاف علي؟ منذ سنتين وأنا أعود إلى المنزل وحدي وما زلت تحذر ، لا تقلق أبي الغالي ، إن نسيت أنا فلن تنسى قدماي الطريق . انطلاقه الذي ما توقف حتى في حديثه إلينا زاد سرعة بعد أن أنهى كلماته ، ضحكتُ وضحك والده وهو يقول: الله يعينني على شبابك ، يبدو أنك ستتعبني يا ولد ، نظرتُ إلى جارنا وسألته: كم يبلغ عمره الآن يا أبا أحمد ؟ - هو في السنة الثامنة ، ولكن لسانه كما تأكد كل من عرفه لسان شاب كبير . - ما شاء الله ، طفل في الثامنة كابنك يستحق المكافأة ، لا أذكر أنه انقطع عن الصلاة في المسجد الأقصى ، عليك أن تفرح به وأن لا تقلق عليه كما أخبرك ، أما لسانه فأشهد له بالفطنة والذكاء ، وزيادة على ذلك بالأدب ، فلا يضره أن يكون متحدثاً طليق اللسان ، بل ذلك من حسن حظه . - أرجو أن يكون ذلك نعمة ، أنا أحب هذا الولد أكثر من كل أبنائي ، أصدقك القول أنه أكثرهم حفاظاً على الصلاة في المسجد معي ، وكذلك رغم كثرة لعبه وحركته هو مجتهد في دروسه يحقق العلامات الممتازة كل فصل دراسي . - وماذا نريد فوق هذا من أبنائنا ، دعه واحمد الله أن رزقك إياه ، والآن أفهم سر قلقك عليه وخوفك من سيره وحيداً . - صدقني إنني أعتمد عليه أكثر من إخوته الذين يكبرونه ، وليس حبي له دافع حرصي عليه ، يا كمال: الولد صغير ، والقدس كما تعلم صارت مأوى لمتطرفي اليهود ، ومسرحاً لأشدهم حقداً ، وهذا ما يجعلني أفضل بقاءه معنا . - آها ، المستوطنون اليهود الحاقدون ، معك حق في هذه ، لكن ابنك لا يُخاف عليه ، فهو ما شاء الله ، يُعتمد عليه فلا تضيق عليه ، سلمه كما هذه المدينة كلها لله . قبل أن ننهي جملنا الأولى من حديثنا يكون (أحمد) قد اختفى في أحد المنعطفات في الطريق ، وبعد ما قاله والده صرت أحس أنا أيضاً بالقلق ، فحالنا نحن الكبار ليس آمناً في ظل هذا الوضع كيف بطفل مثله !! مضينا واطمأننا إلى وصوله بأمان ونحن نسمع صوته ينادي بإخوته: الفطور يا كسالى ، يا شباب المستقبل الفطور ، ابتسم جارنا (عزات) وقال: هكذا دائماً ، اعذرونا أيها الجيران ، فوضاه تملأ الحي دائماً . وهنا أطل من الباب الخشبي وقال: أبي الفطور جاهز . - عرفتُ ذلك منذ وصلت بداية هذا الشارع ، وهل تظن أن صوتك وشوشة فلم أسمعه ؟ تأدب يا ولد وخفف حركاتك هذه ، كل يوم تقلقنا وتقلق الجيران بنشاطك الزائد . - كمال: لا بأس بهذا النشاط يا أبا أحمد ، ولكن بشرط أن نكون مدعوين إلى الفطور أيضاً ، وأن لا يكون نصيبنا معرفة أنه جاهز فقط . - أحمد: نحن بيت (عزات أبو حسين) تفضلوا ولن نقصر معكم ، فطورنا فطوركم . - سبع وشهم يا (أحمد) ، الله يحفظك لوالديك قرة عين . دخلوا بيتهم وجلستُ أتأمل وجه بابهم المجعد ، رغم حرصهم على أن أتناول الفطور عندهم إلا أنني أرفض ، وجبة الإفطار مع العائلة لها طعم خاص في القدس ، ووجودي لن يكون إلا عائقاً أمام تحلق الأسرة حول مائدة واحدة ، أحياناً كان إلحاح (أحمد) يضطرني لمشاركتهم ، والحق أنهم عدوني واحداً منهم فأجلسوني على مائدتهم مع الأسرة كلها ، تركت ذلك المشهد وعدت إلى الباب وتساءلت كيف استطاع هذا الباب المتهالك أن يحفظ كل تلك السعادة وراءه ، بيتهم العامر بقصص الماضي عبر الأجيال التي سكنته ، احتفظ بمفتاح السعادة وألقاه لكل من ورث سكناه ، أذكر جد العائلة وأحاديثه التي لا تمل ، عيشتهم البسيطة لا توحي بأنهم يعانون ما يعانيه غيرهم ، سيرها المسترسل دون تذمر يجعل الناس يحسبون أنهم في أحسن حال ، كنت مثل كثيرين أظنهم يحيون في أرفه وضع ، ما اكتشفته بعد مخالطتي لهم عن قرب أنهم من أكثرنا معاناة ، لكنهم مقدسيون حقاً ، تناسوا كل آلام الحياة واحتفظوا بدواء واحد يطبب جراحهم ، كلما سألت واحداً منهم أجابني بجواب (أحمد) الذي سمعته منه أول مرة: يكفي أننا نعيش في القدس ، وتحت ظلال المسجد الأقصى . يهزمني ذلك الصغير بكلماته دوماً ، يصعب على مثلنا تفسير تلك المعاني التي تبثها عبارات الثقة على لسانه ، لعل صعوبة تفسيرها في أنها تصدر عن طفل في عمره ، الصمت أبلغ بعد كل موقف يسطره بحروفه البريئة ، لو كان أحد غيره من يقولها لربما نازعته أو خالفته أو ناقشته ، أما وقد نطقت بها شفتاه أملاً رقراقاً ، فلا سبيل إلى اليأس من حالنا ، والتعليل الوحيد لذلك عندي هو صدق براءته المطلق . الاستمتاع بضوء القمر في القدس له طعم خاص ، من زقاقنا في حي سلوان لا نتمكن من رؤية قبة الصخرة تحت نوره ، لذلك نتسلى قليلاً بمشهده بعد صلاة العشاء في الأقصى ثم نعود إلى منازلنا ، وكوجه الشروق عند (أحمد) أرى وجه القمر ، دقائق يقضيها من الصمت والتأمل وأقضيها أنا في متابعة ملامح الأحلام في وجهه الأسمر المتهلل ، بعد عودتنا إلى منازلنا أجلس على سطح البيت لأتأمل القمر المقدسي الجميل ، أشكو إليه ما أجده تحت شمس النهار وما تجده المدينة ، هو لا يمل الاستماع إلى شكوانا طوال الليل ، ثم يهزأ بنا وبآلامنا ويسلمنا إلى نهار جديد من المعاناة ، ذلك اليوم سكوت القمر لم يكن مبرراً عندي ، فهو لم يتنهد أي تنهيدة ولم يزفر أي زفرة كما توهمت دائماً ، ظل جامداً في مكانه ساكناً يكتفي بالسير معي والاستماع إلي ، انتصف الليل وكاد يغيب القمر مع اقتراب موعده ، لم أشعر بالوقت رغم وحدتي معه تلك الليلة ، صحوتُ من شرودي وهممت بأن أودع القمر والسماء ، لكن ما تحولتْ إليه الحارة استبقاني ، وشرح لي شيئاً من جمود القمر ، لقد كان خائفاً حانقاً لا يريد أن يشهد على ما سيحدث ، سيارات جيش الاحتلال وشرطته تدخل شارعنا بسرعة ، قوات كبيرة تنبئ عن حدث كبير ، مجانين يقفزون من السيارات ويطوقون الشارع ، تقدموا بصمتٍ لأراهم يتقدمون نحو منزل (عزات أبو حسين) ، نعم إنهم يريدون ذلك المنزل تحديداً ، خمس درجات حجرية تسبق الوصول إلى باب المنزل الخشبي ، أحسست بها تئن تحت نعالهم الثقيلة ، عهود وأجيال مرت عليها واحتضنت خطوات منذ أكثر من قرن ، لا أظن أنها عايشت خطوات أقسى من خطواتهم ولا أثقل ، ليس كثقل الخطوات إلا ثقل الوقت الذي مر بطيئاً ، انخلع قلبي مع الباب الخشبي القديم الذي لم يحتج إلى أن يرطمه الجندي مرتين ليتحطم ، دخلوا البيت بهمجية ليست غريبة عليهم ، بدأت أسمع صوت بكاء الأطفال الفزعين ، أخرجوا الأسرة وأوقفوهم تحت شجرة توت عمرها من عمر المنزل ، رأيت تلون وجوههم بالغضب تحت أضواء السيارات العسكرية ، تصفحت الوجوه الحزينة ولكن ... (أحمد) لم يكن بين الموجودين ، دفعني الغضب أيضاً وأمسكت بسور السطح كأنني أعض عليه بيدي ، عضضتُ على شفتي وأردت أن أفعل شيئاً لكن أي شيء ينتجه عجزنا إلا الشعور بالقهر والألم !! مكثوا في البيت نصف ساعة ثم رأيتهم يخرجون ، توجهوا إلى أبي أحمد ورأيتهم يناولونه ورقة بينما ألصق جندي ورقة أخرى عند باب المنزل . بدأ انسحابهم بعدها وألف فكرة تدور في خاطري ، للحظات وبسبب غياب (أحمد) عن الموجودين ظننت أنهم قادمون لأجله ، اعتدنا على ادعاءاتهم وأفعالهم الدنيئة ، قلت: هل يمكن أنهم كالعادة اتهموه بقذف الحجارة وأتوا لتكبيل براءته ؟ ولكن ما هذه الأوراق ؟؟ وأين الطفل ؟؟ بدأت أفهم الصورة بعدما انسحبوا ولم أرهم يأخذون أحمد معهم ، نزلت أدفع بخطواتي لتطوي المسافة في أسرع وقت ، آخر سيارة عسكرية غادرت الشارع مع وصولي إلى أبي أحمد ، نظرتُ إليه وقد تزاحمت في عينيه دموع مقهورة ، هل حبستها عنهم لكي لا يشمتوا ؟؟ سألته فأشار إلى البيت والدموع تتفلت من جفنه رغماً عنه ، إنه قرار بهدم المنزل وإخطار بإخلائه خلال ثلاثة أيام . انتفضتُ وارتعشت أوصالي وأنا أسمع احتساب الأم وطفلاتها الأمر عند الله ، (باسم) أخو أحمد الصغير تعلق بثوب أمه وبكى بحرارة ، لا أظنه في الثالثة من عمره فهم ما يجري حوله ، لكنه أدرك أن الأمر محزن مؤلم فبكى مع بكاء الأسرة كلها ، استعدتًُ إلى نفسي وأنا أمسح دمعة غطت عيني ، وسألت: وأحمد ، أين أحمد ؟ هل أصابه مكروه ؟!! اسم (أحمد) دفع بالأم والأب داخل البيت بلا وعي ، حملت طفلتهم الصغيرة (مسرى) بين يديّ وتقدمت خلفهم ، دخلت وراءهم وإذا بأحمد جامد في سريره ، إنه مستلقٍ نصف استلقاء ، عيناه تنظران إلى الحائط قبالته وكأن أمامه أفقاً بعيداً يبحث عن نهايته ، حضنه والده وهو لا يتحرك أبداً بينما جلست والدته تبكي على قدميه ، ذلك الفتى الطليق اللسان انحبس لسانه وأسكتت الصدمة والخوف فصاحته ، استمر بكاء الأسرة والوالد يقول لابنه: سيهدمون المنزل يا بني ، سيهدمون المنزل ، سيهدمون المنزل . أخذت أخت أحمد الكبرى الطفلة مني ، وخرجتُ مع (أبي أحمد) نمسح دموعنا ونجر خطانا لنقابل بقية الجيران ، اجتمع الناس يواسون (عزات) في مصابه ، كبار السن والأجداد جلسوا على العتبة يتذاكرون أيامهم هنا ، المزعج الأشد كان في سبب هدم المنزل ، جلسنا في ساحة صغيرة أمام الباب وتعالت الأصوات حانقة غاضبة: - إلى متى سيستمر هذا الحال يا جماعة ؟؟؟ - اليوم بيت (أبي أحمد) وغداً بيتي وغداً بيتك وبيت فلان وبيت فلان . - نعم ، والأسوأ في كل هذا أنهم يتخيرون البيوت القديمة والتي تعني لنا الكثير . - وماذا بيدنا لنفعله ؟ هل نستطيع التصدي لهم ونحن على حالنا ؟؟ - لماذا لا نتوجه إلى المحاكم ؟ كثير من أوامر الهدم أوقفتها المحاكم . - أبو أحمد: وأي محكمة ستنظر القضية في ثلاثة أيام !! المجرمون حددوا موعد الهدم بعد ثلاثة أيام فقط . - كمال: حتى لو كانت المهلة طويلة ، تلك محاكمهم ولن تقضي إلا بما يمليه عليها جيشهم ومخابراتهم وسياساتهم الصهيونية ، وما بعض الأحكام إلا نتيجة الإحراج ووقوعهم في مأزق ، لا تطبيقاً لقانونهم الظالم أصلاً . - أبو أحمد: فليصنعوا ما شاءوا وليفعلوا ما يريدون ، عني وعن أسرتي: لن نغادر القدس ولو التحفنا غبار منزلنا المهدوم وتوسدنا حجارته . - الله يقويكم ويعينكم يا جار ، وحسبكم الله ونعم الوكيل . - عندما يحين موعد الهدم يجب أن تصل إليهم رسالة قوية واضحة ، كفانا صمتاً . - من هذه الناحية لا تقلق ، فشبابنا كل مرة يذيقونهم المر مع كل عملية هدم ، الأمر بحاجة إلى حل جذري ، يجب أن نؤسس لحماية وجودنا معتمدين على أنفسنا ، فما حك جلدك مثل ظفرك . - يا جماعة: والله من ينظر في سبب الهدم يعرف أنه باطل ، وأنه مجرد مشروع لتصفية وجودنا في القدس ، الله ينتقم منهم . - وما السبب في هذا الهدم الجديد ؟ - كمال: انظروا إلى تلك الغرفة أسفل المنزل ، هذه التسوية الأرضية عمرها (أبو أحمد) ليوسع على أسرته ، وسبحان الله تحولت هذه الغرفة إلى ذريعة لهدم المنزل كله . - يعني أنهم بدل أن يعتبروا الغرفة مخالفة وغير مرخصة عدوا البيت كله كذلك ؟!! وفي أي قانون عدل يكون هذا !! - ومن قال لك أنهم يبحثون عن العدل أو عن القانون ؟! - أبو أحمد: هذا ظاهر الأمر ، أنا أعرف السبب الحقيقي لهدم المنزل ، قبل أسبوع تقريباً جاءني حاخام يهودي إلى محلي في (سوق الواد) ، وهناك ساومني على بيتي ، طبعاً اطلب المبلغ الذي تريده وهو لك ، واحصل على شقة مفروشة في المكان الذي تريده لكن خارج القدس ، ولأنني رفضت توقعت أن يكون مصيري بيتي الهدم . - كمال: حسبنا الله ونعم الوكيل ، لكم الله وأعانكم الله ، صمودكم وقراركم أن تكونوا وطنيين نتيجته انتقامهم هذا ، فاصبروا واعلموا أنكم الأعلون بإذن الله . ارتفع أذان الفجر الأول من مآذن الأقصى ليصرفنا كل إلى بيته نتجهز للصلاة ، الليل انطوى وقد محا وهمي أن مأساتنا تحت شمس النهار فقط ، ها هو الليل يحتضن ألماً جديداً ويشهد القمر معاناة أخرى تماماً كما الشمس ، لأول مرة منذ سنوات أرى (أبا أحمد) وحده في صلاة الصبح في الأقصى ، (أحمد) ما زال على جلسته في فراشه تحيطه أمه وأخواته بالحنان ، انكسرت براءة ذلك الطفل على حد همجيتهم وغابت ملامحه ، لولا تنفسه لظن الناظر إليه أنه تمثالٌ حجري هامد ، زرته ذلك الصباح لأجده بلا حراك لم يتغير من جلسته إلا ما كان نتيجة احتضان والده وأمه له . نظرتُ إليه باكياً بصمت ثم قلت لوالده: يجب أن نحضر الطبيب ، أو أن نأخذه إلى المشفى . الأب الغائب عن وعيه في مصابيه بابنه وبيته أمسك برأسه وجلس إلى جانب ولده يذرف دموعه الحارة ، وتكشف حسراته شهقات تبين عن نحيبه ويا لبكاء الرجال . تركته على حاله تلك وخرجت طالباً الطبيب ، شرحتُ للطبيب القصة وتوقع أن يكون الفتى مصاباً بصدمة نفسية ، أنا شخصياً لم أتوقع الصدمة فمن يعرف (أحمد) يوقن أنه ليس من السهل أن يخاف أو يصدم ، وصلنا إلى البيت ودخلنا لأجد (أبا أحمد) قد احتضن ابنه ومسح دموعه ، جالساً إلى جواره يحدثه عن شروق الشمس على قبة الصخرة ، قال له إنه كان باهتاً وأن بسمته وتهلل وجهه كان يعطي الشروق فوق القبة زهوه ورونقه ، هدأته وسحبته قليلاً إلى الخلف حتى يتمكن الطبيب من فحص الطفل ، والغريب أن الطبيب أكد أنه لا مشاكل لدى (أحمد) ، وأنه ربما يكون حزيناً أو مصدوماً فقط ، رغم ذلك أعطانا دواء مهدئاً امتنع (أحمد) عن تناوله وعن تناول أي شيء آخر من الطعام . هممتُ بالمغادرة بعد خروج الطبيب وأنا أوصيهم بأحمد خيراً ، لحق بي (أبو أحمد) واستوقفني شاكراً معتذراً عن عجزه عن التصرف ، هززتُ رأسي وابتسمتُ قائلاً: وكلها لله وحده ، دفع الله ما كان أعظم ، واعتنوا الآن بأحمد فقط ، واتركوا الباقي لرب العالمين . تصبر حينها (أبو أحمد) وتجلد ثم قال وابتسامة خافتة فيها إصرار تعلو جبهته: لا تقلق عليه سيكون بخير ، أنت علمتني ذلك . يومان مرّا على الإخطار بالهدم ، وأنا لليلة الثانية على التوالي أعاتب القمر وألومه ، في الليلة السابقة شددت من لومي له في الساعة التي وقع فيها الحدث ، هذه الليلة لن أفعل فما انتصف الليل حتى عاد المشهد إلى ما كان عليه قبل يومين ، الجيش الصهيوني والشرطة يندفعون بكثرة معهما جرافات كبيرة يداهمون الحي ، فوجئت بالمشهد وصعقتُ وأنا أراهم بأعداد فوق ما كان في المرة الأولى ، هل هناك إخطار هدم آخر ؟ ما عمل الجرافات معهم في هذا الليل ؟ ليجيبني على تساؤلاتي عنفهم في اقتحام منزل (عزات أبو حسين) ، لقد استبقوا انتهاء المهلة وجاءوا لتنفيذ أمر الهدم ، الأسرة مرة أخرى في الشارع يحمل كل طفل منهم في يديه بعض الملابس ، رأيت (بيسان) تخرج حافية حذاؤها في يدها مع ملابسها ، الأم تحمل أغطية وتلقيها على الرصيف وتجلس أبناءها عليها ، الرصيف المقابل لبيتهم آواهم مدة نصف ساعة قبل أن يخرج الأب حاملاً ابنه (أحمد) على فراشه ويضعه أيضاً جوار الباقين على الرصيف ، صمتٌ مدوٍ سيطر على الموقف قبل أن يفجر السكون هدير محركات الجرافات وهي تتقدم نحو المنزل ، الضربة الأولى لواجهة البيت وقعتُ في عظام (أبي أحمد) ، رأيته يغمض عينيه ويزيح وجهه ويميل على عمود كهرباء يضربه بقبضة غاضبة ، كنت قد نزلت ووقفت قبالتهم وقد منعني الجنود من الاقتراب ، ما إن تصاعد الهدم حتى اشتعل طرفا الشارع بالمواجهات بين الشبان والمحتلين ، حولوا البيت أثراً بعد عين خلال ساعة ونصف ، لم يكتفوا بتقويض جدرانه بل طحنوها طحناً وكأنهم ينتقمون منها ، انسحبوا وهم مزهوون بانتصارهم على الحجارة الجامدة وعلى العزل الآمنين ، تقدم (أبو أحمد) وأطفاله ووقفوا في منتصف الشارع أمام آثار المنزل الذي كان يحتويه قبل ساعتين . موقفهم ذلك واجمين أشعرني بأشياء غريبة ، كل شيء هنا يحدث هكذا ، فجائياً وكأنه حلم سرعان ما توقظك منه يد سوداء ثقيلة ، البيت الذي احتواهم لسنوات صار ذكرى ، انتهى الأمر وصار الخوف حقيقة ، لحظات التفكير قبل الحدث ثقيلة ، أي واحد في مكانهم سيمني نفسه بالكثير ، سيتمنى لو أن إخطار الهدم حلم مزعج ، سيحتمله لكن المهم أنه حلم ، الحلم هو أن يكون الإخطار بالهدم حلماً ، فها هو غبار بيتهم يغلي في الهواء يعاني ما نعانيه من الغاز المسيل للدموع ، وصوت سقوط حجارته يشارك صوت حجارة الغاضبين في صد قنابل الصوت والرصاص ، اجتمع الجيران حول الأسرة من جديد ، عبارتنا جميعاً كانت: المهم أنكم بخير ، الحمد لله أنها انتهت على هذا ، في المال ولا في العيال ، بما أنكم بخير فالباقي يُعوض ، كلنا سنتعاون لنبني لكم منزلاً ، كونوا بخير واطمئنوا لعون الله ، ولكن أين أحمد ؟ نظرنا إلى حيث التفت (أبو أحمد) ، الفراشُ خالٍ فأين ذهب الطفل ؟؟ كلنا كنا متوجهين إلى الرصيف وظهورنا إلى ركام المنزل ، للحظات وهمنا أن (أبا أحمد) نسي ابنه في البيت وأخرج الفراش فارغاً ، اختنقت الكلمات في أفواهنا والعبرات في العيون ، حتى (عزات) نظر إلينا وكأنه ينفي تلك الفكرة ، نظرنا إلى الركام بلهفة لنرى أمام اندفاعنا طفلاً يقف على حجر من الركام ظل واقفاً كشاهد القبر ، ينفض عن كتفيه الغبار ويحدق إلينا في عزم وثبات ، سرنا نحوه يتقدمنا والده ليوقف خطواتنا منصتين متفكرين في قوله: سنبنيه يا أبي ، سنبنيه جديداً ليناسب انتصارنا القادم ، بعد أن ننفض عنا غبارالهزيمة ونصحو من رقاد النكبة ونعمل بجد من أجل وطننا ، ذهبت الحجارة ولكننا بقينا وبقي الوطن، فنحن الوطن لا الجدران والعمران . وقفتُ أمام تلك الكلمات كما كل من سمعها ورأيناه يخطو فوق حطام منزله وفتات جدرانه وكأنه لم يتأثر ، وعرفت من عباراته تلك ما نسيناه وغاب عنا ، علينا أن نبقى لكي يبقى الوطن ، وعلينا أن نقوى لكي نبني الوطن ، وعلينا أن نتذكر لكي نحفظ لنا ولأجيالنا من بعدنا أرض الوطن .
***
تحيتي وتقديري
الحالم- موقوووووووف
- عدد المساهمات : 1116
تاريخ التسجيل : 27/01/2014
ملتقى صائد الرؤى :: الملتقيات العامة و الساحة السياسية والاقتصادية المفتوحة :: حوار الثغور ومنبر السياسة والاقتصاد والفتن الخاصة (عمران بيت المقدس خراب يثرب)!
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى