ملتقى صائد الرؤى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

لا غناءٌ لنا يدوم

اذهب الى الأسفل

لا غناءٌ لنا يدوم Empty لا غناءٌ لنا يدوم

مُساهمة  الحالم الأحد أبريل 13, 2014 1:42 pm

سألت أخي عن سبب فصل ذكر الكنار عن أنثاه وجعله كلّاً منهما في قفص, فأخبرني أنّه لا يغرّد إلا قليلاً إن وضعهما معاً (ربما حين تكون نائمة أو رافضة) , فيفصله عنها ليغرّد طيلة الوقت.

في حكايته لتنقّله بين المذاهب في رحلة القلق, في السيرة الفكرية والنفسية النادرة “المنقذ من الضلال”, يتحدث الإمام الغزالي عن أنّ من يكتب عن الأحوال والمقامات هو من لم يعاينها أو بشكل أدقّ أن الكتابة عنها ليست ذات معاينتها, أو بكلمات أخرى إنّ الكتابة في حالة غربةٍ وقصورٍ عن الحقيقة, ديالكتيك ما بين التاريخ والمثال, بين الإنسان والمطلق, فمن يلتحم باليقين و يترقّى في منازل العرفان والحب الإلهي يستغرقه الوجد والمعنى حتى لا يترك مساحةً للقول أو قدرةً عليه … أو حاجة له.

في سياق مختلف يتكلّم العروي في أحد كتب المفاهيم المكثفة والذكية “مفهوم الحرية” , عن أننا لا نكتب عن الحرية إلا إن افتقدناها , و أن حضور الحرية في الكتابة مرتبط بغيابها في الوجود, كما أن حضورها في الوجود مرتبط بغيابها في الكتابة.

كان هذا سؤال رسول حمزاتوف الذي يُقرأ بخفية في كتابه الساحر “بلدي” , ما الذي جعله يكتب عن داغستان حقّاً : موسكو التي أقام فيها أم قرية تسادا التي يحنّ إليها , الروسية التي يتكلّمها مع رؤسائه و منفاه أم الآفارية التي يحفظ بها ذكرياته ؟

ورغم أن هذا التصريح مجافٍ لتراتبيات البلاغة المعهودة وآداب الكلام عن عن جوامع الكلام , لكن ما نقشته جارية اسمها نزهة على خاتمها وروتها كتب الظرفاء والجواري في زمن العباسيين المترف, ممّا لا أقرؤه دون رهبة تهزّني في العمق, رهبة من إعجاز الكلمة القادر على أن يموسق إشراق الحكمة العالية برقّة الومض … بإيجاز الطعنة, نقشت نزهة على خاتمها : من حنّ أنّ ..

أراد ابن عربي أن يوهمنا بالنقيض, حين كتب إن الشوق الذي يسكن باللقاء لا يعوّل عليه, يؤمن ابن عربي أن “الحروف أمة بين الأمم”, وأنّه لا يكتب بقدر ما يفيض الله عليه من فتوحات الكلمات, كان ابن عربي يحاول أن يتغلّب على ما أتعب الغزالي, ويحاكي المطلق بالكلمات, وكان لا بدّ له أن يراهن على لقائه المستحيل وشوقه المكتمل, لأنّ شرعيّة “أمّته” مستمدّة بالذات من هذا النقض للنقص الملازم للشوق, وكان ابن عربي واعياً أنّ شوقه ولقاءه في أفق متوهّم من الكمال تتسق فيه النقائض, مختلف عن أفق النقص الذي نحيا ونغبرّ فيه غير متسقين حتى مع ما يشبهنا لا مع ما ينقضنا.

يكتب شاعر فرنسي في القرن السابع عشر : إن الحب كالأشباح, يتحدّث عنها الجميع ولا يراها أحد.

ربما كان هذا ما أقنع به المتنبي نفسه في ترفّعه الفروسي عن الحب قبل أن يحترق به :

و عذلْتُ أهل العشق حتى ذقْتُه

لكن المتنبي في حرصه على المطلق اللغوي الأرضي –كنقيض لابن عربي الحريص على المطلق اللغوي الروحي- يجعل الشوق الأكمل ضريع المستحيل ,لا الواجب كما يقول ابن عربي, ولا الممكن كما تقول الحياة:

وما صبابة مشتاق على أمل

من اللقاء كمشتاق بلا أمل

لم يلتفت المتنبي إلى أن الشوق سليل النقص وليس العدم ولا الكمال, فقد كان مفعماً بأن حياته تمثّل للكون , وأن الكون تمثّل لقدر الغياب الذي لا يغيب :

أبني أبينا نحن أهلُ منازل

أبداً غرابُ البين فيها ينعقُ

ربما في مساءٍ ما تحدث شوبنهور للمتنبي واقتبس منه فلسفة الألم.

كان صوتُ نجاة الشفيف الذي تكمن عذوبته بالضبط في الغياب الساكن فيه , في القلق اللامفهوم واللامحسوس الذي تحيل إليه الرهافة المرتبكة, لخّص بحكمة وافية كلّ ما أرادت أن تقوله امرأة مفعمة بالضعف والغضب في الليل لنبيّ اغترب عن وحيها: القريب منك بعيد و البعيد منك قريب.

يغرّد الكنار للأنثى حين يفصل عنها, ويكتب الصوفي عن الله حين يتوقه أن يشهده, وينظّر المفكر للحرية حين يسود القمع, ويحبّ الجبلي التلال حين تبلعه المدينة, ونحيا أبداً عبر هذا النقص, كوليد يشقّ الرحم مجهداً كي يشمّ الهواء, ولكنّنا في رحم طويل …طويل.

نكتب عمّا لا نمسكه, أشواقنا اختناق ما يختلق هواءً ليتنفّسه الوهم, وعلى ارتطام ما بالحقيقة الفجّة و القاسية كما ينبغي للحقيقة أن تكون ندرك بداهةَ أن اشتياقنا لما هو غائب بالذات, وأن حياتنا ليست سوى قصة هذا التوق الطويل…. بالذات.

الحالم
موقوووووووف

عدد المساهمات : 1116
تاريخ التسجيل : 27/01/2014

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى